غير مصنف

هواة الفلك بالخليج.. عندما يكون التراث معراجهم نحو السماء

يلاحظ في دول الخليج العربي اتساع ظاهرة “هواة الفلك” منذ أكثر من نصف قرن، ليتبعه أخيراً اهتمام رسمي وأكاديمي متزايد في هذه الدول بعلم الفلك وعلوم الفضاء بوجه عام.

وارتبط العرب منذ القدم بعلم الفلك، فقد عرف عنهم استعمالهم لمواقع النجوم في البر والبحر، وسجل القرآن الكريم هذا لهم، ليأتي الإسلام بجملة من الشعائر والفرائض التي تستلزم الاعتماد على الفلك وما يعرف بالهندسة الكروية؛ كمواقيت الصلاة، ومواعيد “الأهلة”، التي تعني دخول الشهر القمري، ومواعيد شروق الشمس وغروبها، المتصلة بفريضة الصيام.

وبرع العلماء المسلمون في العصور الإسلامية الذهبية في علم الفلك، بعد أن أضافوا لخبرتهم كلاً من الخبرات الهندية والساسانية، وكان لعلم الفلك الإسلامي لاحقاً تأثير واضح في نظيره البيزنطي والهندي والأوروبي، بحسب الخبراء.

وفي منطقة الخليج تحديداً، لم يشكل سكان المنطقة استثناءً من حقيقة ارتباط العرب بعلم الفلك، إلا أن القرون الأخيرة التي شهدت تأخراً في العلوم- في مقابل نهوض أوروبي- فرضت نفسها على حاضر المنطقة. واعتباراً من بداية القرن العشرين، شهدت دول وإمارات الخليج هبة نخبوية جديدة نحو علم الفلك، تمثلت بظاهرة “هواة الفلك”، وخلفت عدداً من الصروح العلمية ذات الصلة بهذا العلم.

شيخ الفلك بالخليج

“عندما كان الكويتيون يختارون إما البر أو البحر لكسب الرزق، اختار د. صالح جهة ثالثة؛ هي السماء”، هكذا وصفت الأكاديمية الكويتية، الدكتورة سعاد محمد الصباح، من يمكن أن يطلق عليه لقب شيخ الفلك بالخليج، وهو الدكتور صالح محمد العجيري.

الدكتور العجيري هو من أوائل رواد علم الفلك وحامل لواء التعريف به بدولة الكويت، وكذلك في منطقة الخليج، إذ تعلم العجيري – المولود عام 1920 بالكويت – الفلك الشعبي، ثم درس الحسابات الفلكية، ولا سيما حساب التقويم والأهلة الهجرية، وتنقل في عدة دول عربية وغربية، ناهلاً من هذا العلم، حتى نال الدكتوراه الفخرية من جامعة الكويت.

وبعدما تنبه والد الفلكي الكويتي، الملا محمد العجيري، لميول نجله، قام بإرساله إلى قبيلة الرشايدة في جنوب غرب الجهراء، لتعلم الرماية والفروسية والحياة الخشنة، وهو ما أتاح له في تلك البيئة الصحراوية الصافية تأمل الشمس والقمر والسماء وحركة النجوم وتموجات الكثبان الرملية، ودور اتجاه الرياح وتقلبها في تكوينها، وأوقات الأمطار ونبت الأعشاب، ومواقيت الصلاة، وغير ذلك مما فصله في كلمة ألقاها في حفل تكريم أقامته له قبيلة الرشايدة في 2009.

وقدم العجيري، شيخ الفلكيين بالكويت والخليج، للمكتبة العربية العديد من المؤلفات الفلكية والعلمية، إضافة إلى الكثير من الأبحاث التي توخى فيها بساطة الأسلوب كي تعم الفائدة.

العجيري راودته منذ الستينات فكرة بناء مرصد فلكي في الكويت، فاشترى لهذا الغرض أرضاً بمساحة ألف متر مربع في منطقة الأندلس، وجلب لها من أمريكا في السبعينات تلسكوباً ضخماً وقبة بطول ثلاثة أمتار.

وأطلقت السلطات الكويتية المعنية على أكبر مرصد في الدول الخليجية اسم “العجيري”؛ تكريماً للعالم الفلكي وتخليداً لذكراه، وافتتح المرصد أمير الكويت آنذاك، الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، في 1986.

جمعيات ومؤسسات

وأنشأ النادي العلمي في الكويت، التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل “القبة الفلكية”، في عام 1995، كما أنشأت إدارة علوم الفلك في 2006 قسم الفضاء التابع لها، وهو يختص بدراسة علم الفضاء الخارجي وإمكانية استكشاف الفضاء، وذلك بعد أن جرى دمج “القبة الفلكية و”مرصد العجيري” مع “رابطة هواة الفلك” التي أنشئت في عام 1986 لتشكل إدارة علوم الفلك.

وعرفت جميع الدول الخليجية إنشاء عدد من الجمعيات الفلكية والمهتمة بهذا العلم، سواء في إطار يعرف بـ”هواة الفلك”، حيث لا يشترط السابقة الأكاديمية أو التخصص العلمي، أو في إطار المؤسسات التعليمية، أو الجهات التي تؤسسها الدولة.

ففي الإمارات ظهرت جمعية الإمارات للفلك في أبوظبي، ومجموعة دبي للفلك في دبي، ونادي الإمارات الفلكي لطلاب جامعة الإمارات. أما في السعودية فقد عرفت الجمعية الفلكية السعودية بجدة، والجمعية الفلكية بالقطيف، وقسم الفلك في جامعة الملك عبد العزيز، المؤسسة التعليمية الوحيدة التي تمنح درجتي البكالوريوس والماجستير في هذا التخصص على مستوى الخليج.

وبعد الكويت، برز اهتمام دولة الإمارات المتنامي بهذا المجال العلمي، وخاصة الاستكشاف الفضائي، وبلغ الاهتمام ذروته في العام الجاري عندما قررت الدولة إنشاء “وكالة الإمارات للفضاء”، ووضعت لها هدفاً الوصول إلى كوكب المريخ خلال ست سنوات.

وكانت الإمارات اتخذت العام الماضي خطوة وصفت أيضاً بالمهمة؛ وهي إنشاء مرصد وطني بتكلفة 30 مليون درهم، رحب بها خبراء الفلك، واعتبروها خطوة مهمة من أجل إعادة إحياء علم الفلك في البلاد.

الجامعة الأمريكية في الشارقة من جهتها أنشأت الملتقى الفلكي الخليجي، الذي يعقد غالباً في الإمارات، وذلك منذ نحو 14 عاماً.

أما في السعودية، فقد شكلت الثقافة العامة- بحسب بعض الخبراء- التي سيطرت على المجتمع خلال الثمانينات والتسعينات، واعتبرت الفلك ضرباً من التنجيم، عائقاً أمام تطور هذا العلم، وأدت بالفعل لإقفال قسم الفلك بجامعة الملك سعود في التسعينات.

الباحث الفلكي بقسم علوم الفلك والفضاء في جامعة الملك عبد العزيز، ملهم محمد هندي، يؤكد أن الفلكيين في السعودية أعدادهم قليلة، وتحت مظلتي قسم الفلك بجامعة المؤسس أو قسم الفلك بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، منوهاً بـ”جهودهم المتكاملة في البحث العلمي”.

وتوجد في باقي الدول الخليجية جمعيات مماثلة، تجمع هواة الفلك، وتعمل على إحياء هذا العلم الذي يحمل صبغتين متضادتين، وهما التراث والحداثة. إذ توجد الجمعية الفلكية العمانية، ومرصد المرزم الفلكي، والجمعية الفلكية البحرينية، ومركز قطر لعلوم الفضاء والفلك.

ونظراً للاهتمام الرسمي والأكاديمي، وحتى الشعبي، المتزايد بعلم الفلك وهواية الرصد والمراقبة ومتابعة الأحداث الفلكية، يتوقع خبراء أن يتطور هذا العلم في الدول الخليجية، لا سيما مع تكريس ظاهرة “هواة الفلك” وتبلورها في جمعيات ومؤسسات، لتنعكس على الجهود العلمية والبحثية التي ما زالت فقيرة مقارنة بمناطق أخرى في العالم.

والسؤال المطروح في هذا الصدد، هل ستشهد الدول الخليجية نتيجة لتطور هذه العلوم حسماً لجدليات قديمة، وتتجدد كل عام، ومنها شرعية الحسابات الفلكية فيما يتعلق بالمناسبات الدينية، وهل ستتمكن من التفريق بين الخبراء والمختصين الذين يعرفون بعنايتهم العلمية، وبين المنجمين الذين يحلو لهم أن يسموا أنفسهم بالفلكيين، ليتحفوا الجمهور العربي كل عام بتنبؤاتهم السياسية والاجتماعية؟

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى