الدراما التي شهدتها الساحة البريطانية الأسبوع الماضي طرحت سؤالاً مهماً يتخطى الواقع السياسي البريطاني. وهو سؤال فلسفي أفرزته العلاقة بين البريكسيت والإرادة الشعبية في بريطانيا.
فالدراما البريطانية بدأت بإعلان رئيسة الوزراء تيريزا ماي تأجيل التصويت بالبرلمان البريطاني على اتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، الذي أبرمته مع بروكسل الشهر الماضي. وقتها قالت ماي إن قرارها بالتأجيل نابع من اهتمامها بالسعي لمواصلة العمل مع الاتحاد الأوروبي للقضاء على ما يثير قلق نواب البرلمان من بعض بنود الاتفاق.
وبالفعل، قامت تيريزا ماي بجولة، في اليوم التالي مباشرة، ضمت عدداً من دول الاتحاد الأوروبي. وبينما ماي في جولتها الأوروبية، وبسبب قرارها بتأجيل التصويت، أعلن البرلمان البريطاني التصويت في اليوم نفسه على قرار بسحب الثقة منها. وهو الإعلان الذي كان حزبها نفسه فاعلاً رئيسياً فيه.
لكن تريزا ماي أعلنت قبل ساعات من بدء التصويت أنها لن تسعى لفترة إضافية لقيادة حزبها متى تمت الدعوة لانتخابات عامة جديدة، وهو ما كان يعني تنازلاً للأجنحة المختلفة في حزبها لعله أسهم في التصويت لصالحها في قرار سحب الثقة. فقد منحها 200 من الأعضاء ثقتهم مقابل 117، فاحتفظت رئيسة الوزراء بمنصبها.
غير أن المفارقة هي أن احتفاظ ماي بمنصبها لم يغيّر شيئاً في الواقع الحائر لمعضلة البريكسيت. فقد كان واضحاً من جولتها الأوروبية قبل الإعلان عن تصويت سحب الثقة، أن الاتحاد الأوروبي يرفض إعادة التفاوض على الاتفاق الذي تم إبرامه، بعد سبعة عشر شهراً من المفاوضات المضنية التي تناولت جوانب تقنية بالغة التعقيد.
وكان مثيراً لانتباه الكثيرين، عند وصول تيريزا ماي إلى ألمانيا، الصعوبة التي انفتح بها باب السيارة التي تقلها، بينما أنغيلا ميركل تقف منتظرة لتحيي ضيفتها، مما حمل دلالة رمزية بدا معها، وكأن باب الانفتاح على الأوروبيين صعب المراس.
ونظراً لأن قرار الثقة لا يسمح للبرلمان بالعودة للتصويت بسحب الثقة قبل مرور عام على الأقل، فإن وجود تيريزا ماي في منصبها لمدة عام قد ينذر بالشلل السياسي، لأن البدائل أمامها محدودة للغاية. فلأن الاتحاد الأوروبي يرفض إعادة التفاوض، فإن أقصى ما سيقدمه لماي هو مساعدتها على جعل الاتفاق مقبولاً لدى برلمان بلادها.
لكن المعضلة تكمن في ذلك البرلمان، الذي لا توجد بداخله أغلبية داعمة لأية صيغة بعينها من الصيغ المطروحة للخروج من الاتحاد الأوروبي، بما فيها تلك التي قد تنبع من قيام الاتحاد الأوروبي بمساعدة ماي على تمرير الاتفاق المبرم، بل وبما فيها رفض الاتفاق المبرم، والركون إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق على الإطلاق.
معنى ذلك أن بريطانيا قد تكون مرشحة لحالة من الشلل السياسي، لا يمكن الخروج منه إلا عبر بديلين كليهما صعب. أولهما إجراء انتخابات عامة جديدة لن يفضلها أي من الحزبين الكبيرين، أي المحافظين والعمال، لأن كليهما منقسم بشدة على نفسه بشأن البريكسيت، فضلاً عن أنه بديل صار أكثر تعقيداً بالنسبة لحزب المحافظين، بعد تعهد تريزا ماي بعدم قيادة حزبها حال إجراء انتخابات جديدة.
أما البديل الثاني فهو إعادة استفتاء المواطنين بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه. ففي عام 2016، أعطى 51.9 % من البريطانيين أصواتهم لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومن هنا، يأتي السؤال الأهم الذي تطرحه الحالة البريطانية.
فهل العودة لاستفتاء البريطانيين على الموضوع نفسه، أي البريكسيت، يمثل افتئاتاً على الإرادة الشعبية التي تم التعبير عنها بالفعل في عام 2016، أم أن الامتثال للإرادة الشعبية معناه العودة لها للحصول على توجيهات جديدة بخصوص مستقبل العمل السياسي في حال حدوث شلل فشل ممثلو تلك الإرادة الشعبية، أي البرلمان، في وضع حد له.
فإذا كان الناخبون في أغلبيتهم قد عبّروا عن رغبتهم في الخروج من الاتحاد الأوروبي، ألا يعني العودة لإجراء استفتاء جديد أن الإرادة الشعبية لم تحترم، وأن الداعين للاستفتاء يسعون للتحايل عليها عبر الدعوة لاستفتاء جديد يتم من خلاله استخدام الوضع السياسي الخطير لإجبار الناس على التصويت في اتجاه بعينه؟
أم أن احترام الإرادة الشعبية يقتضي العودة لسماع رأي الناس بعد أن اتضح لهم أن ما كانوا يأملون في تحقيقه عبر الخروج من الاتحاد الأوروبي لن يتحقق، بل سيؤدي لمشكلات جمة لمقدراتهم ظهرت فقط مع السعي للتطبيق العملي لفكرة الخروج تلك على أرض الواقع، وبالتالي فإن الإرادة الشعبية سيتم تفعيلها هذه المرة بناء على فهم أكثر وضوحاً لمعنى البقاء أو الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ومع مثل تلك الأسئلة الفلسفية الكبرى، لا توجد إجابات سهلة ولا حتى إجابة واحدة ناجعة.
نقلا عن صحيفة البيان الاماراتية