نون والقلم

محمود زاهر يكتب: معالم الفساد

العقود الأخيرة شهدت تنامي ظاهرة خطيرة، انتشرت جغرافيًا واجتماعيًا وسلوكيًا، في آثارها السلبية على الأمن والاستقرار وجهود التنمية «الحقيقية».. لم تنجُ منها طبقة مجتمعية، ولم تسلم منها أي مؤسسة.. هذه الظاهرة هي ما يُطلق عليها «الفساد الفكري».

لعل أصعب وأقسى ما قد تواجهه أيُّ دولة، في تحقيق أي تقدم على طريق خطط التنمية، هو وجود منظومة فساد، متغلغلة في مؤسساتها وبنيتها وتركيبتها البشرية، ولذلك يُصَنَّف الفساد على أنه أكبر آفة وعقبة على طريق التقدم، أو تحقيق أي خطط للتنمية.

هناك أنواع عدة للفساد، لا يخلو منها أي مجتمع ـ وإن كان بنسب متفاوتة ـ تتعلق بأشكال مختلفة للانحراف والسقوط، يأتي في مقدمتها الفساد السياسي من خلال إساءة استخدام السلطة، أو المالي والإداري كالرشوة والابتزاز والمحسوبية أو الاختلاس، ثم باقي جوانب الفساد الأخرى التي تطول قائمتها لتشمل «الأخلاقي والاجتماعي».. وغيرهما.

لكننا نعتقد أن أشد أنواع الفساد خطورة على الأمن القومي والإنساني، هو «الفساد الفكري»، بما يحمله من «تغييب» للوعي، و«غسيل» للأدمغة، و«دغدغة» للمشاعر، و«اللعب» على «أوتار» الجهل و«تأجيج» الكراهية، والذي إن أصاب أي مجتمع، تكون نتائجه كارثية، لأنه يشبه الورم السرطاني الذي ينتشر في الجسم، وينخر في أجهزته الحيوية، فتصعب السيطرة عليه، ولا يُجدي معه أي دواء.

نعتقد أن الفساد الفكري حماقة كبرى، ما زالت تتوسع وتنخر بآمال وجهود التنمية المنشودة، وهو إن كان ظاهرة تعاظم انتشارها، وتفاقمت آثارها السلبية، إلا أننا نستطيع التأكيد بأن النُّخب ليست بمنأى عنها، بل متورطة فيها.

ورغم اتِّساعها وانتشارها، إلا أن هذه النخب أو «الفقاعات» التي طفت على السطح مؤخرًا، تمثل فئة لا يستهان بها من «أدعياء الفكر» و«فلاسفة التنظير» و«أقزام الثقافة» و«منافقي الإعلام»، الذين شوهوا معالم «الخريطة الفكرية».. ولذلك يبقى تأثيرهم أشد وأنكى.

نتصور أن وجود فاسد فكريّ واحد، يدَّعي انتسابه لنخبة الفكر وأهل الرأي، يتطلَّب فريقاً إصلاحيًّا كاملًا، لتجاوز تأثيره السلبيِّ على المجتمع، والآثار المترتبة على «تخريب العقول المتعمَّد»، و«تضليل» المفاهيم، و«تسفيه» الأفكار.. وبالتالي فإن فئة «الفاسدين والمفسدِين» فكريًا، نسبة إلى جموع الناس، تعد كبيرة، نظرًا لتأثيرهم الواضح عليهم، من خلال تعاطف المخدوعين بهم والمموِّلين لهم، أو بصمت الغافلين عنهم، انشغالاً بشؤونهم الحياتيَّة، أو لعدم قدرتهم على اكتشاف أولئك، لطيبةٍ نشأوا عليها، أو لحسن النوايا «المدفوع مقدمًا»!

ولكي تحمي أي دولة إنجازاتها، وما حققته على خطى الأمن، والاستقرار والتنمية، يجب أن تقوم بدورها تجاه أبنائها ومواطنيها، وكل فئات الشعب ومكوناته، لحماية المجتمع من الغلو والتطرف والتشدد وتسفيه الأفكار وانحراف الأيديولوجيات، من خلال وجود هيئة «علمية ثقافية» مستقلة ومحايدة، للحفاظ على «الأمن الفكري»، تشكِّل خطَّ الدفاع الأول أمام هذه الظاهرة، والحدِّ من انتشارها.. لأننا لو تركنا المجال مفتوحًا ومتاحًا لأمثال هؤلاء الذين يخربون العقول ويسممون الأفكار، ستكون النتائج كارثية.

zahe3333@gmail.com

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى