نون والقلم

د.عبد العزيز المقالح يكتب: ليلة كانت باريس على وشك الاحتراق

منظر غير مألوف ولا متوقع، ذلك الذي شهدته الملايين عبر التلفاز، لباريس وهي تحترق، وألسنة اللهب تتصاعد من أهم أحيائها، وأعمدة الدخان تغطي سماء المدينة، وتوشك النار أن تلتهم أهم معالمها الرئيسية. المنظر مألوف ويتكرر في البلدان التي توصف بالمتخلفة، لكن أن يحدث ذلك الآن في باريس، مدينة النور والتنوير، فهو المثير للتأمل وإطالة التفكير، ويعني شيئين لا ثالث لهما: الأول أن العنف لا جنس له ولا مساحة محددة من الأرض يتربى ويتنامى عليها، والشيء الثاني أن بعض الأنظمة الأوروبية – ولا أقصد هنا النظام الفرنسي- مهتمة بتصدير الفوضى، وتعمل على استنفار العنف في المناطق التي تسمى بالمتخلفة، ولا تدري أن ما تقوم به سيرتد عليها، ويشكل نموذجاً يُقتدى به في مدنها وفي عواصمها الراقية.
إن باريس أحب المدن التي عرفتها، وعشت فيها وقتاً ليس بالقصير، وأظنها كذلك بالنسبة للملايين الذين زاروها، وحتى أولئك الذين لم يسعدهم الحظ بزيارتها، وفيها نَمَتْ وتطورت دوائر الإبداع الأدبية والفنية، وبعض ذلك يجعلها حرماً مقدساً، وفي منأى عن التخريب والتدمير، ويجعل أبناءها مهما كان مستواهم الثقافي على درجة من إدراك أهمية مدينتهم، وعدم الاستجابة لمشاعر الانفعال، وتحت أي ظرف كان.
لكن القدوة السيئة القادمة إليهم من المناطق المنغلقة والمعُرضة لتآمر سياسي وتاريخي، تجعلها تفقد توازنها، وتنسى مستوى المكان الذي تعيش فيه، ويدفع بها إلى أن تبدي من العنف ما قد يكون أكثر فظاعة وأوسع تخريباً، وهو يعكس ما حدث في تلك الليلة السوداء التي عرفتها باريس، ربما لأول مرة بهذا الشكل، وبهذا القدر من الرغبة في التدمير، وما تلاها بعد أسبوع واحد.
ويبدو، أن هذا الذي حدث في باريس سيتكرر في أكثر من مدينة أوروبية، لاسيما تلك المدن أو العواصم التي يتمادى حكامها في تجاهل ما يحدث في منطقتنا العربية، وليس ذلك فحسب، وإنما بالإضافة إلى التجاهل والإسهام في تشجيع العنف وتغذية مصادره، وهو ما لا يحتاج إلى أدلة أو براهين. فأصابع الاتهام تشير إلى ما يحدث من تدخل مباشر أو غير مباشر في هذا القطر العربي أو ذاك تحت ما يسمى بحماية المصالح أو البحث عن المصالح. إن السعي الدؤوب على وقف العنف وإدانة وسائله، ليس عملاً أخلاقياً وإنسانياً فحسب، بل هو دفاع عن المصالح الحقيقية وحماية الأرض والبشر من الحماقات التي ترتكبها بعض الفئات، لأسباب معلنة أو لغير أسباب، فضلاً عن ضرورة البحث عن مجتمعات آمنة ومستقرة.
ومن حسن حظ المهاجرين العرب وغير العرب المقيمين في باريس أن القائمين بالعنف والذين حاولوا إحراق باريس، كلهم دون استثناء من أبناء المدينة، ومن سكانها الأصليين.

نقلا عن صحيفة الخليج

أخبار ذات صلة

Back to top button