عندما ينقضي عام ـ بلحظاته السعيدة وأيامه المؤلمة الحزينة ـ في رحلة العمر القصيرة، قد يجد الإنسان صعوبة وغموضًا في تفسير بعض ما يدور من حوله.. ربما لأسباب واقعية، أو نتيجة حالة العبث الممنهج «اللامنطق» التي يعيشها!
بين سنة تمضي وأخرى تأتي، هناك لحظة من التأمل، يحتاج الإنسان فيها أن يأخذ هُدنة مع العقل، خصوصًا عندما يمر بأوقات يشعر فيها أن هذه الدنيا لا تساوي شيئًا، أو يكتشفها على حقيقتها التي كان يتجاهلها، ليزداد يقينًا بأنها لا تستحق كل ما يفعله من أجلها!
لحظات من التأمل، تستوقفنا في حياتنا، أمام أفكار شحيحة وفقيرة، بالنظر إلى «رقابة ألوان الطيف»، والمحظورات والمنع، أو ما قد نتعرض له من مصائر محفوفة بالمخاطر، إن حاولنا أن نغرد خارج السرب.. أو بمعنى أدق «شاردين عن القطيع»!
الآن، يمكننا القول إننا نعيش في زمن بائس، تتكاثر فيه الأفكار، حتى صار كل شيء حولنا قابلًا للكتابة، وبالتالي فقدت الكلمة معناها ومدلولاتها، وأصبحت عديمة الجدوى والفائدة، من خلال واقع «مستفز وشاذ»!
لعل أقل وصف لما نعيشه الآن، هو أننا في زمن المسخ، الذي لا قيمة فيه لكلمة صادقة نابعة من ضمير، حتى صارت قيمة الكتابة تنتفي تدريجيًا، كمثل الذي يقوم بطلاء واجهة منزل آيل للسقوط في أي لحظة!
سنوات من الكتابة، والمحصلة لا شيئ.. فما الذي تغير أو تحقق من أقوالنا وأفكارنا وخواطرنا.. الأوضاع المعيشية تزداد سوءًا.. الخوف والقلق أصبحا جزءًا أساسيًا من حركة الحياة.. فهل استطاعت الكتابات تغيير أو فعل شيئ طوال عقود؟
ربما اعتقدنا «مخطئين» أنه يمكننا بسهولة استجلاء حالة التشوه التي أصابت العقول، من خلال ازدواجية وفوضى ضربت المفاهيم والقيم.. لكن الواقع المرير أصعب من أن نختزله في كلمات أو جمل، مع استمرار حالة الخلط المتعمد بين الشيء ونقيضه.
الآن، ضاعت البوصلة خلف أيديولوجيات عقيمة فاقدة للأهلية، يفتقر منظروها إلى أدنى مقومات المعرفة الحقيقية، في مواجهة عقول هشَّة، استطاعت بسهولة ابتلاع طُعم الكراهية والقمع والتخوين والتصنيف، ومصادرة حقوق الآخرين!
تلك العقول الهشَّة صارت تقبل الابتزاز ـ بلغة ناعمة أو مرواغة ـ حتى أصبحت فريسة سهلة ولقمة سائغة، جعلتها منقسمة ما بين الخوف و الارتباك والصمت، أو التحول والتشتت والضياع!
عقول تنساق «طوعًا أو كرهًا» وراء تصديق الجهل والغباء والشائعات، وتصدير كل القيم السلبية عبر أبواق كاذبة، لتبرهن إحداثيات هذا التشوه أن العقل ربما يتقبل الكذبة تلو الأخرى، أو يتعايش مع الوهم رافضًا للحقائق!
للأسف، في زمن تبدَّلت فيه المفاهيم والقيم، لا ضير في قبول العيش في الأساطير، وعشق الأكاذيب، ورفض التنوير، وصولًا إلى زمن «تغييب الوعي»، الذي تستخدم فيه أبشع الأسلحة المحرمة إنسانيًا، لاغتيال العقول، وتزييف إرادتها وأحلامها.
نتصور أن أصعب ما قد يواجهه الإنسان في حياته، أن يكون هناك انتهاك مقصود لعقله، لإقامة حواجز نفسية وفكرية، لا يجوز لأحد الاقتراب منها أو تخطِّيها، لإنجاز وتحقيق أعلى معدلات الفشل الذريع، وكأنه فيلم «سخيف» يُعاد عرضه بمناسبة، أو بدون مناسبة!
إذن، عندما تكون هناك وقفة متأنية مع النفس في مقابل مراجعات للعقل، ما بين الحق والباطل.. الصواب والخطأ.. المنطق والجنون.. الوعي واللاوعي، سوف نجد شعرة دقيقة فاصلة، ما بين الواقع والواقعية، عبارة عن أفكار وأحلام تلوح في الأفق، قد تكون حبيسة مقيدة، لا تستطيع أن ترى النور.. إما خوفًا أو صمتًا!