أقل ما يمكن أن يوصف به الإرهاب «الإسرائيلي» ضد المسجد الأقصى هذه المرة أنه «إرهاب ممنهج»، تماماً كما هو الاستيطان والتهويد، استيطان وتهويد هدفه إفراغ الأرض من أهلها أولاً ومن تاريخها ثانياً. فالمطلوب، كي يقيموا من الكيان «دولة يهودية» محو كل أثر للبشر وللتاريخ، لذلك جاء الدور على الأقصى لإقامة الهيكل المزعوم، ولو أن القضية هي بناء أكبر كنيس يهودي على أرض القدس لأقاموه، لكنهم يريدون إزالة الأقصى وهم منذ اللحظة الأولى لاغتصابهم فلسطين يعرفون ما يريدون.
لديهم مشروعهم، ولديهم أدواتهم، ولديهم أيضاً منظمات الإرهاب اليهودية التي توصف بأنها متطرفة وأصولية، لكنها صناعة كاملة لحكومات الكيان المتعاقبة اختلقوها لتقوم بالأدوار القذرة التي سبق أن قامت بها المنظمات المؤسسة للكيان قبيل نكبة عام 1948 وفي أعقابها مثل منظمات «الهاغاناه» و«الأرجون» وغيرهما، والنموذج البارز هو منظمة «لهفاه» ورئيسها الإرهابي «بنتسي جوبشطاين» الذي أعلن في معهد ديني يهودي بالقدس المحتلة (الأسبوع الأول من يوليو/تموز 2015) أنه يجب إحراق الكنائس والمساجد في «أرض «إسرائيل» وبعدها بأقل من أسبوعين أحرقوا منزلاً لعائلة فلسطينية في نابلس بالضفة الغربية (31-7-2015) ما أسفر عن استشهاد طفل حرقاً (18شهراً) هو علي سعد دوابشة، وإصابة 3 من أفراد أسرته.
وعندما ينتهك أوري أرائيل وزير الزراعة «الإسرائيلي» مع مجموعة كبيرة من المستوطنين، تساندهم وتدعمهم قوات الاحتلال، باحة المسجد الأقصى، ويشرف هذا الوزير على قيام قوات الاحتلال بفرض حصار عسكري مزدوج على القدس الشرقية المحتلة والمسجد الأقصى، ووضع متاريس حديدية على بوابات الأقصى، وقطع الكهرباء عن المصلين المعتكفين والقيام باعتقالهم وإطلاق الرصاص عليهم ما أدى إلى إصابة أعداد كبيرة منهم، فليس من المتصور وصف هذا كله بأنه أعمال فردية، أو أنه تصعيد غير محسوب، ولكنه تصعيد للإرهاب مدروس وممنهج ومحدد الأهداف برعاية واستحسان حكومة بنيامين نتنياهو التي تسعى ضمن مرحلة تصعيدية أولى إلى فرض مخطط تقسيم الأقصى، زمانياً ومكانياً، تماماً على نحو ما سبق أن حدث للحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل الذي جرى تهويده من خلال خطة مشابهة بدأت بالتقسيم المكاني والزماني وإثبات حقوق لدخول اليهود إلى باحة الحرم بدعوى التعبد أو «حق العبادة» وبعدها تتم السيطرة، لكن الفارق بين مخطط الحرم الإبراهيمي ومخطط الأقصى أن التهويد الكامل كان هدف مخطط الحرم الإبراهيمي أما ما يستهدفونه من الأقصى فهو هدمه وإزالته بالكامل، لأنه شاهد العيان الأهم على عروبة القدس وإسلامها.
ولكي يتضح المخطط ويتكشف يجب أن نعي أن الأقصى والمساجد الإسلامية ليست المستهدفة وحدها بل والكنائس أيضاً. فإذا كانوا قد قاموا هذه المرة بتحطيم بوابات الجامع القبلي التاريخية خلال اقتحامهم للمسجد الأقصى من باب المغاربة واعتدوا واعتقلوا المعتكفين، وقاموا بتفريغه بالكامل ثم فرض حصار عليه ومنعوا المصلين من الدخول لأداء صلاة الجمعة الماضية (18-9-2015) فإن الكنائس، بل سيدنا عيسى (عليه السلام) نفسه لم يسلم من أذى التطرف اليهودي المسنود حكومياً. فالمسيح في أدبيات منظمة «لهفاه» ليس إلا «المشنوق بن النجار» وهو، وحاشا لله «ثمرة خطيئة بين جندي روماني ومريم بنت يواقيم» التي وصفها القرآن الكريم بأنها «أطهر نساء العالمين».
فمنذ نكسة يونيو 1967 بدأ غلاة المتدينين المتطرفين داخل الجيش «الإسرائيلي» بتدمير الكنائس والأديرة في القدس الشرقية المحتلة على وجه الخصوص، وتعمدوا تدنيس المقدسات المسيحية والإسلامية وانتهاك الخصوصيات بهدف محو ذكر المسيحية والإسلام من فلسطين، وما يحدث الآن من إرهاب تقوم به منظمة «لهفاه» وغيرها من تدمير المساجد والكنائس إلى حرق البشر إلى احتلال الأقصى هو ثمرة جهود أنشطة وسياسات الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة، وهم ثمرة الفكر الديني المتطرف الذي يدعوا الآن إلى هدم الدولة العلمانية «الإسرائيلية» وإقامة دولة أخرى على أساس الشريعة اليهودية ابتداء من جماعة كانت تسمى ب «شارة الثمن» أو «شباب الشلال» إلى منظمة «لهفاه» على نحو ما جاء على لسان الشاب موشيه ارباخ الذي قام مؤخراً بإحراق كنيسة «الخبز والسمك» على شاطئ بحيرة طبرية، وهو شاب «حريدي» من بني براك. فقد كتب وثيقة حصل عليها «الشاباك» (الأمن الداخلي) عنوانها «مملكة الشر»، وهي تضم الأسس الفكرية لتصعيد الهجوم ضد المقدسات الدينية (إسلامية ومسيحية) وضد العرب وتقدم اقتراحات عملية حول كيفية التملص من المطاردة والتحقيق، إن حدث.
وفي الوثائق والأحاديث المختلفة يتحدث النشطاء المتطرفون عن ضرورة إيجاد حالة من الفوضى في الدولة بواسطة تصعيد الاحتكاك في الأماكن التي تعتبر نقطة ضعف. وقد اهتم هؤلاء الإرهاربيون وتنظيمهم لعمليات إطلاق النار ضد الفلسطينيين في الشوارع، والاتجاه إلى وسائل أخرى أكثر تطرفاً مثل إحراق صفائح البنزين وإلقائها داخل بيوت الفلسطينيين وداخل المساجد والكنائس وعلى المارة من الفلسطينيين، وخاصة العمال منهم، فهم حريصون على طرد كل غريب عن أرض «إسرائيل» (الأغيار) بالإرهاب المتطرف والأيديولوجيا المتطرفة.
هؤلاء الإرهابيون الذين يحملون رسالة «تطهير «إسرائيل» من مسلميها ومسيحييها على السواء عبر تمكين المستوطنين من اقتطاع أراضي الفلسطينيين، هم من أبناء المستوطنات الذين يجري تدريبهم داخل معسكرات ترعاها الدولة ويحرسها جنودها على نحو ما كشف الكاتب الفرنسي «ايمانويل هيمان» في كتابه عن «الأصولية اليهودية» عندما تحدث عن الحاخام اسحق غينيز برغ الذي سبق أن أقام وليمة عامة في ذكرى المتطرف القاتل باروخ غولدشتاين الذي سبق أن فتح النار في فبراير/ شباط 1994 على المصلين في باحة الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل وقتل 24 منهم قبل أن يقتل نفسه. فقد ذكر هذا الكاتب الفرنسي أن هذا الحاخام المدعو غينز برغ أنشأ مدرسة تلمودية في مدينة «شكيم» (ويقصدون مدينة نابلس التي تضم مرقد سيدنا يوسف بن يعقوب عليهما السلام) وصباح كل يوم تتوجه حفنة من الطلبة إلى هذا المكان «المبجل» لتلقي دروس التطرف واستعادة روح التاريخ القديم حيث تنقلهم سيارة مصفحة تابعة للجيش«الإسرائيلي» وتعيدهم في المساء ويفتح الباب لهم جندي يحمل على كتفه بنقدية كلاشينكوف بينما يواصل الشباب ترديد صلاة بالعبرية تتكرر فيها عبارة «يوسف حي»، والهدف هو تربية هؤلاء الصبية والشباب على أنهم «طليعة يهودية تعيد الارتباط مع تاريخها القديم».
هكذا يُصنع الإرهاب، وهناك تصنَّع أيضاً الأيديولوجيا المتطرفة القائمة على قناعات مثل: «بعد مئات سني المنفى عدنا إلى ديار صهيون، وصهيون هي القدس وظهر الجبل، أرض التوراة والأنبياء»، ومثل «من احتل البلاد كان بالذات الإسلام في القرن السابع الميلادي والذي حشر سكانها اليهود في مسيرة طويلة بين: إما الإسلام وإما المنفى». والدولة والحكومة هي من يرعى هذا كله ويخطط له ويبرره، وهي التي تبني المستوطنات، وترعى مخطط التهويد، وتصدر أوامر هدم مباني وبيوت ومساكن الفلسطينيين واقتلاع مزارعهم، فحسب بيانات الإدارة المدنية الصهيونية يوجد أكثر من 11 ألف أمر هدم ضد 13 ألف مبنى فلسطيني في المناطق ج (بموازاة مسيرة المفاوضات السلمية والتنسيق الأمني مع السلطة الفسلطينية).
أوامر الهدم هي الأخرى تتم وفق تخطيط منهجي وبمعدل متزايد وتراكمي في عدد أوامر الهدم سنوياً، لكن القفزة الحقيقية كانت في 2009 2010 بعد تشكيل حكومة نتنياهو الثانية حيث صدر 776 و1020 أمر هدم على التوالي بين سنوات 1988 1995، وفي عام 2010 صدر 2020 أمر هدم ضد مباني فلسطينية.
الإرهاب مخطط وممنهج، والتهويد والاستيطان مخطط وممنهج، كما أن التفاوض ومسيرة السلام هي الأخرى مخططة وممنهجة وزيفها أيضاً ممنهج ومخطط ومرتبط أشد الارتباط بالإرهاب والتهويد والاستيطان والهدم. ومن يفكر في التصدي للإرهاب ومخطط هدم الأقصى الذي هو ذروة الإرهاب التهويدي عليه أن يكسر هذه الحلقة، أي أن ينهي، وللأبد مسيرة المذلة والتنسيق الأمني المهين مع من يسعى إلى «تطهير الأرض ومحو التاريخ» من كل أثر عربي أو إسلامي. فهذا هو الواقع الذي يهرب منه الجميع. –
42 4 دقائق