لا يكاد الكيان الصهيوني ينهض حتى يسقط، ولا يفيق من ضربةٍ حتى يتلقى أخرى، ولا يشفى من سقمٍ حتى يصابَ بمرضٍ، ولا ينجو من مصيبةٍ حتى يبتلى بغيرها، ولا يحاول أن يستر نفسه إلا ويفضح، ولا يغطي عورته حتى تكشف، ولا يرفع قدماً حتى تزل الأخرى أو تسيخ أقدامه وتتعثر خطواته، وكأن قدره أبداً أن يكون مهزلةً وأضحوكةً، ونكتةً وأمثولة، وحكايةً يتداولها الناس وصورةً يتبادلها المواطنون، ونحن بهذا نفرح، وعلى سقطاته نضحك، وعلى عثراته لا نحزن، ولمشاكله لا نقلق، ولهمومه لا نهتم، ولكننا نرصد أخطاءه، ونتابع تصرفاته، ونراقب حركاته، وندرس سياسته، ونعرف ردود فعله، ونتنبأ بخطواته، ونتحسب لاعتداءاته، ونأخذ حذرنا من غدره، ونعد العدة لمكره وخداعه.
إلا أن العدو الإسرائيلي لا يتعلم من سقطاته، ولا يستفيد من عثراته، ولا يأخذ العبرة مما يصيبه ويلحق به، ويصر على أخطائه ذاتها التي يكررها، وسياساته نفسها التي يتبعها، ولا يريد أن يغير أو يتغير، ولا يقبل بالواقع الجديد ولا يرضى بتطورات الحياة، ويعتقد أنه ما زال قادراً على كل شيء ويستطيع أن يفعل ما يريد، ونسي أنه لم يعد هو الأقوى ولا الأكثر قدرةً وتفوقاً، ولا يعترف بأن صورته القديمة قد انهارت، وهالته العتيدة قد زالت، ولم يعد القوة التي لا تقهر، والجيش الذي لا يهزم، بل بات يُرغمُ ويُهزمُ، وتُكسر إرادته وتضيع هيبته، وأصبحنا نحن الأقوى والأقدر، والأجرأ والأشجع، ننال منه وننتصر عليه، ونصده ونرد عليه.
في غزة يمرغ أنفُ جيشه، ويسوء وجه أمنه، وتفشل فرق نخبته، وتنهار إرادته، وتعجز أجهزته عن تحقيق أهدافها، وتعود من غزة أدراجها، تجر أذيال الخيبة، تلملم فلولها وتلعق جراحها، وتسحب على الأرض قتلاها، وتخفي عن العيون خسائرها، وتهب له المقاومة بفصائلها وشعبها، وبقواها وجمهورها، فتكشف المجموعة، وتبطل العملية، وتطلق النار على عناصرها، وتلاحق سيارتهم تحت وابلٍ من نيران الطائرات الحوامة الحديثة، التي أمطرت الأرض بطلقاتها، وشقت طريقاً آمناً فيها بنيرانها، لكن المقاومة ترد بقوةٍ وحسمٍ، وبسرعةٍ وعلى عجلٍ، فتميط اللثام عن هوية المنفذين، وتنشر صورهم، وتسلط الضوء على مهمتهم، وتعلن ملاحقتهم، وتطالب باعتقالهم ومحاكمتهم، وتعلن أنها لهم بالمرصاد إن فكروا بالعودة أو بتكرار التجربة، فستكون عاقبتهم وخيمة وخاتمتهم تعيسة، وسيصيبهم أسوأ مما يتوقعون، وأكثر مما يتخيلون.
لكأن الصفعة التي تلقاها جيش العدو ورئيس حكومته بنيامين نتنياهو لم تكن كافية، أو أن الدرس لقنته إياه المقاومة في غزة لم يكن بليغاً، فاستدار شمالاً نحو لبنان، وأعلن عن درعه في الشمال، الذي استهدف فيه الأنفاق وخطوط المقاومة الأمامية، وظن أنه سينال منها، وسيرد الصفعة التي تلقاها في غزة للبنان وأهله، وسيرمم الجرح الذي أدماه وترك أثراً على وجه، وشوه صورته وكشف زيف حقيقته، وما علم أن المقاومة في لبنان أشد وأقوى، وأشرس وأنكى، وأصلب عوداً وأكثر مراساً، وأن صفعتها مدوية، ولطمتها تخل، وركلتها تشل، ورد فعلها موجعٌ مؤلم، وأنه لن يقوَ إن واجهته على النهوض، ولن يستطيع أمام بسالتها على الثبات.
وفي الشمال كما في الجنوب، فإن كان مقاومو غزة قد غنموا من جنود العدو مسدساً، فإن المقاومة في لبنان غنمت منه أسلحةً أكثر، وسلبت من جنوده المتأهبين الجاهزين من وراء الحدود بندقيتين رشاشتين، ونقلتهما إلى الأرض اللبنانية.
ولم تكتف المقاومة اللبنانية بهذه الصفعة المدوية، التي طالت سمعته وهيبته، وهتكت كرامته ونالت من شرف جيشه، إذ خسر سلاحه وفقد رمز كرامته، وجلس على الأرض عاجزاً يبكي ضعيفاً يشكو، فلا يستطيع استعادة ما فقد، ولا يقوى على الضرب والرد، إذ يخشى ما هو أخطر وأشد، لعلمه أن ما عند المقاومة أكثر مما يتصور، وأخطر مما يتوقع، بل جعلته أضحوكةً بين جمهوره وشعبه، بعد أن نشرت صور الغنيمة للمواطنين، يتداولونها فيما بينهم، وينسجون حولها القصص والحكايات، ويحبكون بها الطرائف والنكت والقفشات الجميلة المعبرة، التي بها يهزأون من العدو ويتهكمون عليه.
توالت الركلات والصفعات فطالت أفيخاي أدرعي الناطق باسم جيش الاحتلال، الذي اعتاد على الظهور متبختراً متغطرساً، فصورته المقاومة من داخل فلسطين، وتابعت حركته على الأرض كأنها ظله تسير معه وتتبعه، وتمشي إلى جانبه ولا تفارقه، فكان تحت مرمى نيران المقاومة القاتلة، التي إن أرادت قتله قتلته، ولكنها أرادتها رسالةً له ولجيشه الذي ينطق باسمه ولحكومته التي يستظل بها، أن المقاومة أقرب إليهم مما يتصورون، وأقدر على الوصول إليهم مما يتخيلون، وأنهم لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يقوون على الرد على المقاومة إن أرادت استهدافهم والنيل منهم.
لكن أفيخاي أدرعي لم يكن وحده تحت مرمى نيران المقاومة، بل كان مثله الكثير من جنود العدو، ممن صورتهم المقاومة اللبنانية من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما هم يجرون أقدامهم، ويتعثرون في مشيتهم، ويبدو عليهم التعب والشقاء، ذلك أنهم لم يجدوا شيئاً مما توقعه رئيس حكومتهم، ولم يكتشفوا نفقاً مما أعلن عنه جيشهم، وصوره لهم بأنه سبقٌ وانتصارٌ، وأنه ضربةٌ للمقاومة موجعة، وخطوة ضده أليمة.
توالت الصفعات وتعددت الركلات في الأمم المتحدة يفشل مشروعها، وتحبط جهودها، وفي باريس يعتلى المتظاهرون العرب والمسلمون سطح قنصليتهم، وينزعون من على سطحها علم كيانهم ويحرقونه، ويزرعون مكانه علم فلسطين، ويرفعونه عالياً يرفرف، ويختارونه كبيراً يخفق.
إنها المقاومة العربية بكل أشكالها ووجوهها، وبكل أطيافها وانتماءاتها، وفي كل الساحات والميادين، أصبحت تعرف كيف تواجه العدو وتتقن طريقة التعامل معه، فباتت تلاعبه بطريقتها، وتراقصه على الحبال بخبرتها، وتنال منه بقدراتها، تصفعه على وجهه، وتركله على قفاه، وتجعله عرضة للسخرية والتهكم، وتجعل جمهوره ينفض عنه ولا يثق به، ولا يشعر بالأمن معه ولا بالقوة إلى جانبه، ويوماً سنراه يسقط وينهار، ويفقد توازنه ويتخبط، عندما تسقط ورقة التوت التي تستر عورته، وتكسر المقاومة منسأته التي يتكئ عليها، ولعلها بدأت المشوار وسلكت السبيل، وعرفت الطريق نحو عزتها، ومضت على الدرب الذي يصنع النصر ويحقق لها الكرامة.