تحتضن المملكة العربية السعودية أعمال الدورة التاسعة والثلاثين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية غدا الأحد الموافق التاسع من ديسمبر الجاري في ظل أوضاع وتطورات إقليمية ودولية غاية في التعقيد والصعوبة، فالمنطقة العربية في مجملها، ومن ضمنها منطقة الخليج العربي تمر بحالة عدم استقرار على مدى عدة عقود، وخاصة بعد التطورات الأمنية الخطيرة التي شهدتها خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي، والمتمثلة فيما شهدته منطقة الخليج العربي من حروب مدمرة تمثلت في غزو العراق لدولة الكويت الشقيقة ومن ثم حرب تحرير الكويت وصولا إلى الغزو الأمريكي للعراق، وكلها تطورات أمنية في غاية الخطورة تركت آثارها السلبية على الأوضاع في منطقة الخليج العربي وعلى مسيرة مجلس التعاون نفسه.
منذ إنشائه في بداية ثمانينيات القرن الماضي، واجه مجلس التعاون لدول الخليج العربية تحديات كثيرة وكبيرة، أخطرها في السنوات الماضية، الغزو العراقي لدولة الكويت، لكن دول المجلس وبالتعاون مع الحلفاء والأصدقاء استطاعت تجاوز هذه المحنة وإعادة ترتيب البيت الخليجي بعد تحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي، ورغم ذلك فإن مسيرة المجلس لم تخلُ من التحديات والمصاعب التي واجهت المسيرة الخليجية، سواء مسعى دول المجلس نحو تطوير المنظومة الخليجية والارتقاء بها إلى الصيغة الاتحادية أو خلق سوق وعملة خليجية موحدة، وهي كلها مقومات أساسية لبناء منظومة إقليمية قوية على غرار المنظومات الاقتصادية والسياسية الأخرى.
على مدى العقود الماضية لم تخل مسيرة مجلس التعاون من التحديات والعقبات والعراقيل، وإن كانت دول المجلس استطاعت تجاوز الكثير منها خاصة تلك المفروضة عليها من الخارج، كما هو حال التعامل مع الغزو العراقي لدولة الكويت في تسعينيات القرن الماضي ومن ثم حشد المجتمع الدولي من أجل تحرير الدولة الشقيقة، إلا أن أخطر ما يهدد مجلس التعاون هي تلك التحديات التي تأتي من الداخل، وهنا يبرز أمامنا الخلاف مع دولة قطر وهو الخلاف الذي يعتبر أخطر تهديد لمسيرة المجلس.
القمة الحالية تعتبر الثانية بعد تفجر الخلاف بين ثلاث من دول المجلس وهي السعودية والبحرين والإمارات، إضافة إلى مصر مع الدوحة، فقمة الكويت الماضية التي حضرتها جميع دول المجلس بتمثيل متفاوت، لم تستطع معالجة هذا الخلاف ولا التخفيف من وطأته وتأثيره على مسيرة المجلس، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن القمة الحالية ستكون قادرة على إنجاز ما عجزت عنه قمة الكويت فيما يتعلق بهذا الخلاف، الأمر الذي يمكن القول عنه بأنه أهم تحد يواجه مسيرة مجلس التعاون حتى الآن وأن تركه من دون حل سيجلب المزيد من الأضرار السلبية على هذه المسيرة.
منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية شكلت بالنسبة لمواطني دول المجلس بارقة أمل نحو إيجاد كيان خليجي قادر على تلبية رغبات مواطني دول المجلس نحو المزيد من التقارب والتلاحم على مختلف المستويات، لكن مع الأسف الشديد فإن مسيرة هذه المنظومة كانت بطيئة جدا في محطات كثيرة وراوحت مكانها في أكثر من محطة على مدى تاريخها الذي يقترب من عقده الرابع، ما يؤخذ على المنظومة الخليجية أنها لم تستطع إيجاد آلية فعالة قادرة على فك ما قد ينشأ من خلافات بين أعضائها بحيث تستطيع المنظومة مواصلة مسيرتها من دون أن تؤثر عليها تلك الخلافات أو تحد من تحركاتها ومن الطموحات نحو تطويرها، وقد تجلى ذلك حين اثير الحديث عن الانتقال إلى صيغة الاتحاد.
الظروف الحالية التي تمر بها المنطقة والخلاف مع قطر الذي فتح أبوابا أمام قوى خارجية للدخول على خطه والاستفادة من تداعياته، كلها تطورات لا تخدم مسيرة مجلس التعاون، من جهة، ومن جهة أخرى فإن مثل هذه التطورات والظروف الخليجية والإقليمية تحتم على دول مجلس التعاون البحث عن الآلية التي تساعد المنظومة الخليجية على مواصلة مسيرتها والحيلولة دون ضعفها، بل وتفككها أيضا، فوجود هذه المنظومة الخليجية يصب في صالح شعوب المنطقة ودولها بالدرجة الأولى وأن الحفاظ عليها والعمل على دفع مسيرتها يجب أن يتصدر أولويات اهتمامات قادة دولها خلال اجتماعاتهم.
نعرف أن الخلاف مع قطر لن يحل خلال اجتماع قمة خليجية واحدة، حدث ذلك خلال قمة الكويت العام الماضي، وأن قمة السعودية التي تعقد غدا هي الأخرى لن تحل هذا الخلاف، فجميع محاولات التوسط بين أطرف الخلاف التي قامت بها جهات خليجية وعربية ودولية، باءت كلها بالفشل، الأمر الذي ينم عن عمق هذا الخلاف وصعوبة تجاوزه بمجرد عقد لقاء أو اجتماع هنا أو هناك، ولكن تركه يكبر ويستغل من أطراف خارجية، لا يخدم المصلحة الخليجية ولا مستقبل منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فاستمرار هذا الخلاف يعني استمرار النزيف الخليجي.
ليست هناك معلومات مؤكدة تشير إلى أن الخلاف مع قطر سيكون على أجندة قادة دول المجلس خلال اجتماعهم غدا، ولكن الأقرب أنه لن يكون على هذه الأجندة، ويبدو أنه سيراوح مكانه، وربما يكبر أيضا وخاصة أن الحديث يدور عن نية قطرية الانسحاب من المجلس بعد قرار الانسحاب من منظمة «أوبك» للدول المصدرة للنفط. في جميع الأحوال فإن المتضرر الأكبر من إضعاف مجلس التعاون هم شعوب المنطقة ومنظومة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بشكل عام، ورغم استفحال هذا الخلاف وإصرار الأطراف على التمسك بمواقفها المعلنة، تبقى مهمة عدم التفريط بتجربة مجلس التعاون، أمانة في أعناق قادة دول المجلس، رغم كل العقبات والصعوبات والمخاطر المحدقة بشعوب المنطقة وبدولها.