دائماً ما نربط بين السياسيين وبين التلوّن والخبث والدهاء والحنكة ومعارك في الظلام خلف الستار والطعن من الخلف والمؤامرات والدهاليز وغيره من العبارات المحشوة. في الوقت نفسه، لا يبز السياسيين شراسة وعدوانية إلا رجال الاستخبارات وهم عادة في كل دولة في العالم نخبة تضحي بكل شيء في سبيل الوطن، وبالتالي عواطفهم يضعونها في ثلاجة حتى ينتهون من خدمتهم، وعادة لا تنتهي تلك الخدمة أبداً.
جينا هاسبل مديرة الاستخبارات الأميركية على ما سمعنا ذكرت أنها لم تستطع أن تستمع إلى شريط تسجيلات يقال إنه يحوي أصوات ألم من تعذيب المرحوم جمال خاشقجي، وبصراحة لا أقول إلا حدث العاقل بما يليق؛ فالسيدة هاسبل تخلل مسيرتها الإشراف والمشاركة في تعذيب المتهمين ولاحقا تم اتهامها بإتلاف اشرطة فيديو تتضمن التعذيب الذي مارسه مرؤوسيها من الضباط ودافعت لاحقا عن تصرفها بأنه لحماية خصوصية وأمن هؤلاء الضباط.
السيناتور الجمهوري الأميركي ليندسي غراهام خرج بمظهر القديسين الذين يدافعون عن الأبرياء وينتصرون للحق، وسأورد لكم مقطعاً من تصريح له يبدو أنه نساه إبان فترة الرئيس باراك أوباما، قال جراهام وهو من أقوى مؤيدي استخدام الطائرات من دون طيار في قتال تنظيم القاعدة: «إن الغارات التي نفذتها هذه الطائرات منذ بدئها قد قتلت 4700 شخص تقريبا بمن فيهم أعداد من المدنيين»، ونقل راديو هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن جراهام قوله: «لقد قتلنا 4700 شخص، أحيانا تقتل أبرياء وأنا أكره ذلك، ولكننا نخوض حرباً وقد تمكننا من قتل عدد من كبار قادة تنظيم القاعدة».
وسبق للسيناتور نفسه أن رشّح نفسه للانتخابات الأميركية رافعا راية إسرائيل أولا ومن أصدقائها المقربين وعلاقته وثيقة جدا بنتنياهو، وبالتالي ماذا ينتظر من رجل لا يهتم بموت أبرياء مدنيين بدعوى أنها الحرب، أو يتعاطف مع جيش دموي محتل يمارس كل أنواع الإرهاب والوحشية منذ أكثر من سبعة عقود؟
قد يتساءل أحد ما لما هذه الضجة الكبيرة حول مقتل المرحوم جمال خاشقجي؟ الأمر لا يبدو طبيعيا، بل إنه مبالغ فيه بشكل فاحش، خاصة أن أميركا الآن تسعى إلى إدخال الدولة المحتلة قسراً للتطبيع بما يسمى «صفقة القرن»، والمملكة من الدول التي ما زالت صامدة في وجه التطبيع هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يخلو الأمر من ابتزاز تكرّس أكثر في عهد ترامب، ناهيك عن أن هناك من الساسة الأميركيين من يريد الضغط على ترامب بقضية خاشجقي.
أكرر من قبل ولا أزال أحذر من أن الموضوع أكبر بكثير من قضية المرحوم جمال، وليس من المنطقي أن يتنازع الأميركيون على كيف يقررون معاقبة المملكة كما لو أننا ولاية لهم، أو أن المرحوم جمال أحد أبنائهم، ويبدو أن أميركا وصلت إلى قناعة أنها زعيمة العالم فتستخدم قوتها كما تشاء ضاربة بعرض الحائط كل من يخالفها.