قدم ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الخامس عنواناً عريضاً «العالم العربي.. المشي على الماء» والذي تضمن عمقاً فكرياً حول الخوف من غرق الدول العربية، ومع وافر ما حملته تلك الجلسة الغزيرة تطرق الحضور إلى جزئية (المناعة في الدولة الوطنية) وشملوها بنماذج السعودية والإمارات والمغرب والأردن، وكذلك الدول التي حصلت على المناعة المطلوبة وهي مصر وتونس اللتين تعرضتا لاهتزاز طارئ.
لطالما تحدث المفكرون والسياسيون العرب على فشل الدولة الوطنية العربية، من دون أن يتم التطرق إلى مفهوم المناعة عند الدول العربية التي اجتازت اختبارات عسيرة في تاريخها السياسي. ولعل هذا يعد بُعداً مهملاً في ظل تسارع إيقاعات الحركة والسقوط المتوالي الذي جعل المشهد العربي أكثر اتساقاً مع مضامين الدول الفاشلة، بينما خرجت دول جديدة في آسيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي.
لتتحول إلى دول ناجحة في مطلع القرن الحادي والعشرين كذلك هي دول يوغسلافيا السابقة التي أصبحت وجهات عالمية سياحية وكرست الاستقرار السياسي والاجتماعي بعد سنوات طويلة من الاضطرابات. وبالعودة إلى العالم العربي فإن دولاً محددة نجحت بينما سقطت أخرى في أن تجتاز اختبارات التاريخ واستحقاقاته السياسية العسيرة.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى ومع سقوط الدولة العثمانية عام 1923م وبروز الثورة العربية الكبرى ظهرت مسارات متضادة.
ففيما ظهرت القومية العربية قابلها ظهور التيار الإسلامي، وكلاهما كان نتاجاً من العدم. فلم يكن من الأساس هناك أرضية أتاحها العثمانيون لبلورة هذه التيارات لولا ما يمكن أن يوصف بأنها زفرات ولادات مشوهة خاضت صراعات مع الاستعمار البريطاني والفرنسي الذي كان قد شكل عبر سايكس بيكو ملامح البلدان العربية، وكان على المتصارعين المحليين العرب أن يشكلوا في أوطانهم نماذج الحكم السياسي بالنزعات المتوافرة والنشطة في تلكم المرحلة التي شكلت وجه العرب اليوم.
بالقفز سنوات سنجد محصلة ذلك الصراع في اختبار ما يسمى الربيع العربي، فدول عربية متعددة يمكن أن توصف بالفاشلة كسوريا واليمن وليبيا والصومال ولبنان.. فهذه الدول وغيرها استمرت صراعاتها السياسية منذ فترة الاستقلال الوطني منتصف القرن العشرين الفائت، ولم تتوقف تلك الصراعات وظلت كامنة خاملة حتى جاءت الاهتزازات في مرحلة هبوب ما أسموه الربيع العربي.
بالإمكان أن نصف بدقة أن الفترة من خمسينيات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين أنها فترة العالم العربي الذي كان يمشي على الماء وهذا ما يطابق تماماً حال الجامعة العربية وأدائها منذ نشأتها في العام 1945م.
المقاربة اللازمة تبدو في المناعة عند الدول التي استطاعت تجاوز امتحان ما يسمى الربيع العربي ولهذه الدول خصائص بدأت مع النشوء والتكوين السياسي. فالمملكة العربية السعودية تشكلت قوتها من التأسيس عبر الأسرة الحاكمة التي تمثل الوحدة الجامعة لمكونات الدولة وعلى هذا الأساس كانت السعودية دائماً قادرة على تجاوز الأزمات السياسية مهما كانت شديدة.
وكذلك مصر التي يعتبر جيشها نواة القوة نظراً لعقيدته الوطنية لذلك حتى مع الاهتزاز الذي أصاب الدولة المصرية استطاع الجيش المصري استعادة الاستقرار السياسي.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة فهي الأنموذج العربي الأكثر رصانة سياسياً. فالتكوين السياسي عبر الاتحاد كان تأطيراً للبناء السياسي الرصين عربياً فما ذهب له المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يمثل الأرضية السياسية النموذجية في المنطقة العربية على الإطلاق.
المقاربات في النماذج العربية تؤكد مسألة موضوعية في التكوين والنشأة التي ظلت تتعاكس مع الأنماط التي سقطت سياسياً. ففكرة القوميين العرب اصطدمت مبكراً بالفشل في الوحدة المصرية السورية، كما أن حركة البعثيين كانت أكثر شراسة باتجاه اليسارية مما جعلها تتصادم مع الطبيعة العربية قبل أن تتصادم مع نفسها في صراعاتها الدامية.
كل هذه المقاربات وحتى المقارنات تقود إلى قراءة واقعية وفق هذا الواقع بين دول وطنية وبين دول مازالت بعيدة عن تكوين ذاتها الوطني في نطاق النشوء والتكوين للدولة، شعوب الدول الفاشلة معنية أن تخرج من ضيق الاختناقات والأزمات لتبلور إنشاء الدولة بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات المتعصبة. فالأوطان تكتسب مناعتها من ذاتها وليس من استيرادها الشعارات الخارجية.