لم يسبق للبنانيين أن عاشوا في مثل هذا الجوّ من التشاؤم بمستقبل بلدهم. اذا كان من عبارة تلخص الوضع اللبناني في هذه الأيّام فهذه العبارة هي: فقدان الامل.
هاتان كلمتان تختزلان المزاج اللبناني بعدما ساد شعور لدى كثيرين بأن عليهم الاحتفال بالقوة بالعيد الخامس والسبعين للاستقلال. كان هناك، يوم الخميس الماضي الواقع فيه يوم الثاني والعشرين من نوفمبر 2018، احتفال بالاستقلال وجد كثير من اللبنانيين أنّهم مجبرون على الاحتفال به لا أكثر.
ابتعد الاحتفال بالاستقلال عن أي نوع من العفوية التي لازمت هذا العيد في الماضي، حتّى في عزّ أيّام الحرب الاهلية وحروب الآخرين على ارض لبنان. كان هناك، هذه المرّة، من أراد ان يشعر اللبناني بانّ الاحتفال بالاستقلال صار واجبا وان عليه دفع فاتورة هذا الاحتفال ولو عن طريق القبول بزحمة سير خانقة أدت الى احتجاز الآلاف في سياراتهم طوال ما يزيد على أربع ساعات قبل أيّام قليلة من العرض العسكري الذي أقيم بالمناسبة. ليس معروفاً كيف يمكن للتحضير لعرض عسكري ان يخلق كلّ هذه الزحمة؟ قد يكون ذلك عائدا الى غياب أي تحذير مسبق للمواطنين المغلوبين على أمرهم من جهة وغياب أي حسّ بالمسؤولية من جهة اخرى. اكتشف المواطن العادي فجأة انه آخر ما يهمّ دولته الباحثة عن طريقة تثبت عبرها أنّها لا تزال قائمة.
زاد الشعور بالقهر غياب أي اهتمام فعلي بتشكيل حكومة. يوجد رئيس مكلف تشكيل الحكومة، هو سعد الحريري، ولا يوجد من يبحث عن حد أدنى من المقومات التي تضمن العثور على وزراء يمتلكون بعض الخبرة والكفاءة في أي مجال من المجالات. كلّ ما في الامر ان هناك من يريد الانتقام من لبنان لانّه استطاع ان ينهض في المرحلة التي تولّى فيها رفيق الحريري موقع رئيس مجلس الوزراء. لم ينته الفصل الذي اسمه الانتقام من رفيق الحريري لانّه أعاد الحياة الى بيروت ولانّه كان يعمل من أجل إعادة الحياة الى لبنان كلّه.
مطلوب حاليا منع الحريري من الاقدام على أي خطوة يمكن ان تكون متممة للفصل الذي افتتحه رفيق الحريري في العام 1992 عندما أصبح رئيسا لمجلس الوزراء للمرّة الاولى. هذا الفصل الذي بدأ مع رفيق الحريري يجب ان يشطب من تاريخ لبنان. هذا ما يدركه اللبنانيون في أعماق النفس. يدركون أنّ لا أمل بالتخلص من الدولة – الساحة التي تصلح لكل الاستخدامات باستثناء ان تكون في خدمة المواطن اللبناني.
نال لبنان استقلاله قبل ثلاثة أرباع القرن. لعبت عوامل كثيرة، من بينها التنافس مع بريطانيا، دورها في جعل فرنسا تضع حدا للانتداب على البلد الصغير.
لعب زعماء كبار من طينة بشارة الخوري ورياض الصلح دورا في بناء بلد يمتلك مؤسسات حديثة. استفاد هؤلاء من تركة الانتداب الفرنسي. امتلك الزعماء اللبنانيون في مرحلة ما بعد الاستقلال ما يكفي من الحكمة كي لا يغرق لبنان في تجارب الانقلابات العسكرية التي أوصلت سورية الى ما وصلت اليه الآن. لعب النظام الطائفي دوره في منع الانقلابات العسكرية الى ان جاءت حرب 1967 والهزيمة العربية التي دفع لبنان ثمنا غاليا لها. في الواقع، دفع لبنان ثمن تحليه بالحكمة والمنطق. تفادى دخول الحرب فحافظ على ارضه. يبدو انّ ذلك لم يكن مسموحا به عربيا…
بعد العام 1967، صار الانتصار على لبنان بديلاً من الانتصار على إسرائيل. صار مطلوبا القاء كل الثقل الفلسطيني على لبنان، خصوصا بعدما استطاع الأردن المحافظة في 1970 على كيانه ومنع الفصائل الفلسطينية من إقامة دولة لهم على ارضه خدمة للمشروع الإسرائيلي. كانت إسرائيل تعتبر، وقتذاك، الأردن بمثابة «الوطن البديل» للفلسطينيين. من وقف فعلا في وجه مشروع الوطن البديل وقضى عليه كان الملك حسين، رحمه الله.
دفع لبنان غاليا وما زال يدفع ثمن الهزيمة العربية في 1967. لذلك فُرض عليه اتفاق القاهرة في 1969، وهو الاتفاق الذي وجد منه حافظ الأسد مدخلا لوضع اليد على لبنان. ولمّا خرج المسلحون الفلسطينيون من البلد صيف العام 1982، ترافق ذلك مع دخول «الحرس الثوري» الايراني عبر الأراضي السورية، تماما مثلما دخل المسلحون الفلسطينيون الى لبنان.
منذ اتفاق القاهرة، وصولا الى ما قبل حلول الذكرى الخامسة والسبعين للاستقلال، بقي لبنان يقاوم. حتّى عندما اجتاحت إسرائيل بيروت العام 1982 بقي لبنان يقاوم. بقي هناك أمل في إعادة لبنان الى وضع البلد المزدهر المنفتح على محيطه العربي والقادر على الاستفادة من الفرص المتاحة.
قد يكون الاستخفاف بقدرات الساعين الى تدمير لبنان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه رفيق الحريري. لم يرد الاعتراف بانّ هناك من يريد القضاء على أي أمل بمستقبل أفضل للبنان.
ثمّة إصرار الآن على فرض أسوأ اللبنانيين على لبنان وذلك بدل الاستعانة بأفضل اللبنانيين وأكثرهم كفاءة. لو لم يكن الامر كذلك، لما كان يروّج الآن في أوساط المطالبين بتشكيل حكومة حسب «المعايير» التي وضعها «حزب الله» لان يكون لسنّة حزب مسلّح ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الايراني وزير في الحكومة.
تستهدف هذه الخطوة تتويج الانقلاب الكبير الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري. انّه انقلاب ينفّذ على مراحل وقد تكشفت خطوطه العريضة عندما استطاع «حزب الله» ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب العسكري السوري من لبنان. لم يكن حافظ الأسد يتصوّر يوماً أن الوجود العسكري السوري في لبنان سينتهي يوما وانّ هناك من سيفرط بالتركة التي خلفها لنجله بشّار. ولكن ما العمل عندما يشارك النظام السوري، في اقلّ تقدير، في تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري التي بات معروفا مَن تولّى تنفيذها؟
دفع لبنان في سبعينات القرن الماضي ثمن الوجود الفلسطيني المسلّح ودفع ثمن استغلال النظام السوري لهذا الوجود الفلسطيني المسلّح كي يرسل جيشه الى لبنان. يدفع حاليا ثمن وراثة النظام الايراني للنظام السوري. استطاعت ايران، على خلاف الأسد الاب والأسد الابن، تحقيق اختراقات في لبنان بدءا بتغيير طبيعة المجتمع الشيعي فيه وصولا الى اختراق مسيحي سمح لها باختيار من يكون رئيس جمهورية لبنان.
ما تصنعه ايران الآن، عبر النواب السنّة الستة الذين يحرّكهم «حزب الله» هو تحقيق اختراق سنّي دائم وفرض هذا الاختراق على الواقع السياسي اللبناني. مثل هذا الاختراق خطير الى درجة لا يمكن ان يقبل به الحريري، الذي يمثل آخر حصن لبناني.
هذا لا يمنع من الاعتراف بأنّ ايران حققت الكثير في لبنان. حققت أوّلا جعل اللبنانيين يفقدون الأمل في المستقبل. كانت كلمة الامل الحلقة المفقودة في احتفالات الاستقلال التي بدت وكأنها فرضت فرضاً على اللبنانيين، في أكثريتهم طبعا. بدا هؤلاء مجبرين على الاحتفال بعيد لم يعد يعتبرونه عيدا بمقدار ما يرون فيه تعبيرا عن حال غير طبيعية في بلد صارت فيه الدويلة، الممثلة بميليشيا مذهبية، من يتحكّم بالدولة.