اهتمام استثنائي أولاه الإعلام المحسوب على «محور المقاومة» بالمواجهة الأخيرة في قطاع غزة … أحاديث وبرامج وتغطيات، تذهب جميعها باتجاهين اثنين: الأول؛ المواجهة غيّرت قواعد الاشتباك بين إسرائيل وحماس، لترسّخ معادلة جديدة قوامها «الدم بالدم» و«الصواريخ بالصواريخ» … والثاني؛ أنها دشّنت بداية عودة حماس إلى «محور المقاومة»، وتخطي حالة المراوحة والتردد الممتدة…. فهل تغيرت قواعد الاشتباك فعلاً، وإلى أي حد، وما هي قواعد الاشتباك الجديدة؟ … وهل تتجه حماس فعلاً للعودة إلى «محور المقاومة»، وهل قررت الحركة استئناف «نهجها المقاوم» بعد عامين على صدور وثيقتها الشهيرة، وسنوات على قبولها بخيار الدولة على حدود 67، وبعد أن أظهرت ميلاً متعاظماً للقبول بتهدئة طويلة الأمد، وترتيبات تكرس سلطتها في قطاع غزة حتى إشعار آخر؟
مصدر الاهتمام الإعلامي، أو السياسي بالأحرى، بما جرى في غزة من مواجهات دامية، يعود لـ«خطاب النصر»الذي أطلقه يحي السنوار، مسؤول حماس في القطاع، والذي شرح فيه ملامح المعادلة الجديدة وعناصرها … وجاءت التطورات الأخيرة في إسرائيل، واستقالة ليبرمان وتزايد التوقعات بحل الكنيست والذهاب إلى انتخابات مبكرة … وهي تطورات ما كان لها أن تحدث على هذا النحو الدرامي، لولا الصمود الباسل لغزة وأهلها، ونجاح حركة حماس في إدارة معركة «تكتيكية» باقتدار، سواء عبر إحباط «العملية السرية» في خانيونس أو الرد على الغارات الإسرائيلية بإطلاق أكثر من 400 صاروخ صوب «مستوطنات الغلاف»، مع أن الجدل حول تبكير الانتخابات في إسرائيل سابق للأحداث الأخيرة، وكانت الأوساط الدبلوماسية تتوقعها في فترة من شباط وآذار المقبلين.
لكن ثمة جوانب أخرى في المشهد الغزّي، لا يريد الخطاب الإعلامي لـ«محور المقاومة» أن يراها … أولها: أننا نتحدث عن معركة تكتيكية، تأتي في سياق استراتيجية التهدئة التي تحظى بأولوية حاسمة لدى حماس … نحن لا نتحدث هنا، عن تصعيد في «خيار المقاومة» بقدر ما نتحدث عن «تحسين» شروط صفقة التهدئة و«معادلة الهدوء مقابل الغذاء والكهرباء» التي تتوسط القاهرة لإنجازها، وتعمل الدوحة على توفير مستلزماتها من المحروقات والدولارات، ويستعجلها نيكولاي ملادينوف.
قلنا بعيد المواجهة الدامية بساعات، أنها فاصل بين محطتين في سياق واحد، سياق التهدئة … إسرائيل بالعملية السرية أرادت تحسين شروط الصفقة من خلال قتل أو اختطاف واحد من كبار قادة كتائب القسام، وربما يكون للأمر صلة بمصير جنودها الأسرى لدى الحركة … وحماس، أرادت أن تحسن شروطها من خلال إفهام الجانب الإسرائيلي بأن لكل فعل رد فعل مقابل، وأن الهدوء إما أن يكون متبادلاً أو لا يكون.
إسرائيل التي توصلت إلى عشرات الاتفاقات «الكبرى والصغرى» للتهدئة والهدوء مع القطاع، كانت حريصة دوماً على إبقاء يد جيشها طليقة في استهداف القطاع، لكأن الهدوء يجب أن يتحقق من طرف واحد، وفي كل مرة كانت فيها «التهدئة» تخترق، كانت إسرائيل هي المسؤولة عن فعل ذلك، وهذا ما سعت في تكريسه في شرق خان يونس … لكن حماس أرادت هذه المرة، تكريس معادلة «الهدوء المتبادل»، وتركت للوسيط المصري «ترجمة» نتائج المواجهة الميدانية، مراهنة على أن القاهرة، صاحبة مصلحة حقيقية في تكريس الهدوء المؤقت وصولاً إلى التهدئة طويلة الأمد.
المواجهة الأخيرة إذاً، تندرج في سياق تثبيت التهدئة وتحسين شروطها، وليست تعبيراً عن تحول في نهج حماس أو تبدّل في أولوياتها … وإذا ما قُدّر لمساعي الوسطاء، أن يكتب لها النجاح، فإننا سنكون أمام استئناف للمسار الذي اختطته حماس منذ بضعة سنوات، بدل أن نكون أمام انعطافة جديدة، وللبحث صلة.