أعترف بأن رواية يونس قنديل قد انطلت عليّ … فقد قدم الرجل رواية «متماسكة»، ودعمّها بشواهد كتبت على جسده بالسكين و«القدّاحات»، هل ثمة ما هو أكثر من ذلك؟ … ولأنني أعرف سياق العداوات المترسخة بين «مؤمنون بلا حدود» من جهة وتيارات إسلامية إخوانية وسلفية «نوعاً» من جهة ثانية … ولأنني أواكب صراع المحاور وطوفان التمويل وسياسات «الاحتواء المزدوج الناعم» للنخب الفكرية والدينية العربية في سياق هذه الحرب الملعونة بين عواصم عربية وإقليمية… فقد انطلت الرواية عليّ، بل وانتابني شعور عارم من الغضب، عبّرت عنه في مقالتي الأسبوع الفائت… واعتراف بأنني كنت مخطئاً ومتسرعاً.
لم يراودني للحظة شعور بأن أحداً يمكن أن يفعل بنفسه ما فعله «زلمتنا» … لم أتخيل أن يبلغ هوس الشهرة بأحد هذا المبلغ … لم تساورني لحظة شك بعد كل ما أدلى به من تفاصيل … ولم أكن أعرف أن للتمويل سحره المدمر، وأن المرء يمكن أن يذهب إلى جهنم، لكي يضمن استمرار تدفق المال للجيوب أو تركز العدسات على الوجه… وقد كنت مخطئاً… ولولا بيان الأمن العام الذي أكد اعتراف «الجاني/الضحية» بفعلته، وإحالته للقضاء، لما تصورت للحظة أن أمراً كهذا قد يحدث.
لقد صببت جام غضبي على الحكومة، التي أدركها الصباح وسكتت عن الكلام المباح، كما جاء في المقال …. وكيف لا، وفي البال والذاكرة الطازجة، ما زالت صور ناهض حتر مضرجاً بدمائه أمام «قصر العدل»، ماثلة أمامي… وحملت على أصوات التحريض والشحن والتعبئة، وفي البال ما زال مواقف مشابهة تدهمني … لقد ربطت الواقعة المفبركة، بكل هذا وذاك وتلك، وأصدرت أحكاماً واتخذت مواقف، وقد كنت مخطئاً ومتسرعاً.
ليس الغريب أن يقارف المرء الخطأ، فهذا يحدث مع أحدنا كل يوم تقريباً، لكن امتلاك الشجاعة على الاعتراف بالخطأ، هو نصف الطريق لاختيار الصواب … ولقد تعملنا في مدرسة اليسار العربي نظرية «النقد والنقد الذاتي» مع أننا كنا نمارس نصفها الأول فقط، ويبدو أن تراكم تجاربنا، بات يملي علنيا ممارسة النصف الثاني من هذه النظرية، وها أنا أفعل.
ولكيلا يختلط حابل الاعتذار والمراجعة النقدية بنابل ما هو جوهري في المسألة، أرى أن بعضاً مما أوردته في المقالة إياها، كان صالحاً وما يزال … ففي مجتمعنا هناك من لا يزال يروّج عن سبق الترصد والإصرار، لثقافة الغلو والتكفير، ومن يستسهل لغة التحليل والتحريم … أخطأنا في أخذ رواية قنديل كما وردت على لسانه، وتسرعنا في تبني الرواية كما وردت من المصدر، بيد أن تحذيرنا مما تفعله تيارات الغلو والتكفير، وميلها الجارف لشيطنة الآخر وتهميشه وتهشيمه، ما زالت صالحة كذلك … ولن ندع لخطأ اقترفناه عن حسن نية وسوء تقدير، أن يحول دون استمرار مطالبة الجميع، دولة ومجتمع، التصدي بحزم وقوة للغلاة والمتطرفين، وإرساء دعائم ثقافة الحوار والتسامح والعيش المشترك، وحفظ التعددية وصون الحريات، بما فيها حرية الاعتقاد والضمير … ما زلنا على رأينا بأن التوسع في إضفاء القداسة على بعض الموروث، ليس سوى وسيلة لحجر العقول ومصادرتها، خدمة لغرض سياسي فئوي، ورغبة في حفظ مصالح ومكتسبات، دنيوية بامتياز، لا قداسة فيها ولا من يُقدَسون.