بدا من الواضح جداً في الأزمة السياسية الأخيرة التي أعقبت وفاة الصحافي جمال خاشقجي أننا بإزاء مشهد يتكرر في كل مرة مما يجعله ينتقل من مربع الظاهرة إلى السلوك السياسي؛ فمنذ الحرب على العراق التي مرر فيها الإعلام الغربي الكثير من المسلمات تجاه النظام العراقي اكتشف لاحقاً أنها ضرب من الأكاذيب والدعاوى العريضة التي كانت تقتضي مساءلة وفحصاً قبل اتخاذ القرار، وهو الأمر الذي حدث في لحظة ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) حين تم الربط بين الجنسيات التي ينتمي إليها الفاعلون، بينما الجميع يعلم أن تنظيمات العنف المسلح هي تيارات لا منتمية لمفهوم الدولة، بل هي ترى أنها أكثر استحقاقاً للاستعداء والتدمير (العدو القريب)، كما رأينا ذلك لاحقاً، ومع ذلك يحرص منتجو الأزمات السياسية والإعلام المصاحب على أن يتجاهلوا ذلك الفصل، ورأينا ذلك جلياً في موجات «الربيع العربي» التي كانت تعبر عن احتجاجات تم الاستثمار فيها من قوى غربية سياسياً كجزء من مخطط استبدال الإسلام السياسي الصاعد بالأنظمة، رغم أن تلك القوى تدرك جيداً أن الديكتاتورية المؤمنة والاستبداد المقدس أكثر خطراً وإمعاناً في تدمير مفهوم الدولة من الأنظمة السياسية، عدا موقفها من التعددية الفكرية والثقافة والفن… إلخ.
الإشكالية في كل أزمة أنه يتم التركيز من قبل القوى الغربية، خصوصاً منظمات حقوق الإنسان والهيئات الدولية، على الاستفادة من الحدث لإعادة تمرير قيمها ومواقفها ورغبتها في تقليم أظافر الأنظمة تجاه حقوق الإنسان كجزء من عملية التدافع، لكنها تتجاهل مخرجات الأزمة التي تسببها طريقة تناولها.
الأزمة الأخيرة كانت طافحة بهذا التناقض في التعامل مع الأزمة وتجاهل مخرجاتها الكارثية، وأهمها إعادة الحياة لخطابات التطرف وتقويض الدولة ذاتها. فعلى سبيل المثال، أفرزت لنا أزمة خاشقجي كوارث على مستوى السياسة والإعلام؛ بدءاً من الإشاعات والتسريبات الكاذبة والتدخل السيادي الذي مارسته بعض وسائل الإعلام في تركيا وقناة «الجزيرة»، إلى استضافة شخصيات إرهابية للحديث عن الأزمة، بمجرد العودة إلى مواقعها على الشبكة أو طروحاتها التي يمكن أن تقرأ ليس تكفير الدولة والتحريض على إسقاطها والخروج عليها، بل نقضاً للنظام العالمي الذي يحاول أن يتدخل بشكل إيجابي في الأزمات لتعزيز حقوق الإنسان… رأينا كيف تعيد قناة «الجزيرة» إنتاج خطابات التطرف والإرهاب بتسليط الضوء على شخصيات ومؤلفات ذات مضامين كارثية، سواء في الموقف من الحضارة الغربية أو من الدول أو حتى من ضرورة دعم تنظيمات كـ«داعش» والحوار معها لأنها أقرب إلينا من الغرب الصليبي!
ما رأيناه في أزمة خاشقجي بات سلوكاً متكرراً ومريباً، وما أعنيه هنا تلك التحالفات بين الدول التي ترعى الإسلام السياسي وبين قوى وشخصيات متطرفة لإعادة تشكيل المشهد السياسي والإعلامي، ولتمرير الخطابات نفسها المقوضة لسلطة الدولة والبكاء على انهيار تجربة «الربيع» بما حملته من آمال عريضة وتصورات فانتازية عن عالم عربي وشرق أوسط جديد.
السياسي المؤدلج غير راض على ما آلت إليه الأوضاع، ولديه أزمة حقيقية مع دول الاستقرار تعود إلى رغبته في ابتزاز أنظمتها السياسية عبر المطالبة المبتسرة بالإصلاحات السياسية، ولو بدفع أثمان باهظة، كالتحالف مع التطرف وآيديولوجيا العنف. كان ذلك سابقاً مع تبرير عنف «القاعدة» في التسعينات باعتبار أن مكونه الرئيسي وسببه الجوهري هو غياب الإصلاحات، فيما تبين لاحقاً أنه أشبه بالمزحة السمجة مثل ما نراه اليوم من غرائب التسريبات والتحليلات التي لا تقل سخافة، سوى أنها ذهبت في غلوائها إلى الحد الأقصى.
المؤدلجون والمتطرفون والسياسيون ذوو الأجندات يشكلون اليوم تحالفاً براغماتياً لإنتاج خطاب سياسي ابتزازي تجاه الأنظمة المستقرة، مستغلين «الأزمات» التي عادة ما يتم استثمارها وليس وضعها في سياقها الخاص، فمن أجل أزمة لا ترى «واشنطن بوست» بأساً أن تستكتب الحوثي، ولا ترى «الجزيرة» أي مانع في استضافة شخصيات تكفيرية تدعم الإرهاب والتغيير المسلح لكنهم نجوم المرحلة اليوم، حيث يتمترسون خلف مفاهيم ليبرالية غربية الصنع والمنشأ لتمرير مضامين أصولية، تتحول الديمقراطية إلى حكم شمولي، ويتم تصوير الإرهاب والترويع والعنف على أنها معارضة واعتصام سلمي، لكن هذه الازدواجية لا يمكن أن تصمد أمام الأتباع، لذلك يتم إنتاج خطابين؛ أحدهما للغرب والشخصيات المتحالفة من خارج الإسلام السياسي والإعلام، يتحدث بلغة سياسية ذرائعية.
هناك تحالف وثيق يشبه العناق الحميم بين المؤدلجين السياسيين ومنتجي التطرف وخطاب الكراهية اليوم بدعوى محاربة الأنظمة القمعية أو حكم العسكر، كما قيل في أيام الثورات، فمنطقة الشرق الأوسط الآن فقدت منطقها، وأصبحت مسرحاً للعبث واللامعقول من الأفكار والمواقف السياسية التي ستأخذ آثارها سنوات طويلة تفوق حجماً وتأثيراً سنوات النكبة والنكسة وحربي الخليج وحتى ارتدادات الحادي عشر من سبتمبر، والحال أن الوضع متاح للمزيد من الاستثمار والانتفاع أمام تجار الأزمات وحالة اللااستقرار، الذين ترتفع حناجرهم الآن يضغطون على دول الخليج المستقرة، بينما يتعامون عن قول أي كلمة أو تسجيل موقف تجاه كل الانتهاكات التي تحدث في الدول المؤيدة للإسلام السياسي والخطاب الأصولي.
من المتفهم أن تبقى حالة «فقدان المنطق» في أول الحدث كردة فعل على الصدمة، لكن لا يمكن لها أن تؤسس لمسرح من اللامعقول العبثي سياسياً، فضلاً عن تبرير هذا العبث والسكوت عنه مما يؤدي إلى تفاقم الأوضاع بسبب غياب صوت الاعتدال والمنطق.
220 3 دقائق