نون – الجزائر – قطب محمد الأمين
تشتهر الجزائر بالعديد من المغارات الواقعة في الكهوف، وتتوزع على مناطق البلد، لكن مغارة سرفانتس بحي بلوزداد العتيق بالعاصمة الجزائرية تشكل قيمة تاريخية، حيث تميزت بكونها ترتبط بفترة مهمة من حياة الأديب الاسباني ميغيل سرفانتس مؤلف دون كيشوت.
الأيام الطويلة والمقلقة التي أمضاها الأديب في المكان، زودته بما يحتاج إليه من مشاعر وتجارب، وصقلت الصدمات أحاسيسه، ومنحته تلك الصدمات الإلهام اللازم، ليبدع سنوات من بعد أشهر رواية اسبانية في العالم.
تعد هذه المغارة مقصدا للزوار في العطلات للترفيه والإكتشاف وحتى للإختباء من ضوضاء العالم الخارجي وكيف لا وقد اختبأ سرفانتس بهذه المغارة المظلمة بعد محاولته الهروب من الأسر، وفيها بدأ التفكير في كتابة عمله الشهير، دونكيشوت .
وبحسب المصادر التاريخية، بدأت حكاية سرفانتس مع الجزائر عندما منحه الجيش الإسباني إجازة ليعود إلى بلده قادما من إيطاليا، لكن في طريق العودة حاصرته ثلاث سفن جزائرية قبالة سواحل مرسيليا بفرنسا، يقودها قائد البحرية العثماني دالي مامي، وتم أسره رفقة أخيه رودريغو عام 1575.
وبسبب ما كان يحمله سرفانتس من خطابات توصية للملك من شخصيات عدة، طالبوا بفدية لإطلاق سراحه. وبعد مكوثه في الأسر أكثر من أربع سنوات، قدم قسيسان إلى الجزائر ومعهما مبلغ من المال لفدية سرفانتس، لكن في النهاية تم الإفراج عن شقيقه رودريغو فقط.
وبقي سرفانتس بين الأسر ومحاولات الفرار الفاشلة إلى أن جمعت والدته وتجار مسيحيون في الجزائر مبلغ الفدية المتفق عليه، وقدر وقتها بخمسمائة أوقية ذهب، فأطلق سراحه في 19 سبتمبر/أيلول 1580.
محاولات هرب من المغارة
حاول سيرفانتس المتباهي بكونه رجلًا قويًا شديد العزيمة، وثابت الروح القتالية، الهرب أربع مرات، خلال سنوات الأسر ، لكنها باءت بالفشل جميعها، واضطر لاستكمال فترة الاحتجاز حتى دفع الفدية.
تمكنت والدة الأديب والشاعر، من جمع كمية لا بأس بها من العملات المعدنية لإنقاذ ابنيها، وأُعدت ترتيبات الصفقة عام 1577، إلا أن المبلغ الذي جمع لم يكن كافيًا لتحريرهما.
فضل ميغيل أن يطلق سراح أخيه رودريجو، الذي عاد إلى إسبانيا، ليظل هو في الأسر ومستقبله مجهول.
عام 1580، وصل إلى الجزائر الآباء الثالوثيون أنطونيو دي لا بييا وخوان خيل، التابعون للنظام المختص بتحرير سراح الأسرى، وعرضوا فدية لإطلاق سراح أديبهم، ساهمت بجمع جزء معتبر منها والدته.
عاد مؤلف دون كيشوت إلى بلدية دانية (اسبانيا) وانتقل منها إلى بلنسية، ليصل مدريد عند عائلته، التي افتقدته فترة طويلة أمضاها أسيرا في الجزائر.
وخلال عودته إلى موطنه الأصلي كتب عام 1605 الجزء الأول من رائعته «العبقري النبيل: دون كيشوت دي لا مانتشا»، وأتى جزؤها الثاني عام 1615 بعنوان «العبقري الفارس: دون كيشوت دي لا مانتشا».
عند الوصول إلى موقع المغارة، يلاحظ المرء الجهود الخجولة لإعادة إحياء المعلم، الذي لو كان في بلد آخر غير الجزائر، لتحول لمضخة تدر عملات صعبة، تغذي خزينة الدولة.
سطرت على اللافتة المرتفعة إلى الأعلى فقرات تشير إلى الأديب الاسباني، وتواجده في المغارة، وأسره فيها، ونبذة عن الرائعة التي ألفها، واستلهم جوانب منها خلال تواجده فيها.
يبلغ طول المغارة سبعة أمتار، وعرضها متران، وتضم بعض الغرف الصغيرة، التي تعتبر منحوتات أثرية، تكونت بفعل الطبيعة، وتشكلت عبر عقود من الزمن، هي عمرها الطبيعي.
وحول المغارة حديقة صغيرة تزينها بعض الأشجار، وأدراج كانت تؤدي قديما إلى غابة ممتدة ومترامية، تشكل متنفسا طبيعيا للموقع.
محاولات الترميم
أول محاولة جادة لتهيئة مغارة سرفانتس كانت في سنة 2006 وتزامنت مع زيارة وفد من الأدباء العرب، المقيمين في الخارج، بمبادرة من المكتبة الوطنية، وإشراف الروائي الأمين الزاوي.
نفذ البرنامج بالتعاون مع المركز العربي للأدب الجغرافي «ارتياد الآفاق» وأحيا نحو 70 كاتبا مهاجرا من 25 بلدا عربيا، يقيمون في أوروبا والأمريكيتين، ليلة الشعر العربي في ضيافة سيرفانتس.
سريعا توقفت الأشغال في المعلم، ولم يستكمل مسعى ترميم المغارة، وظلت مهمشة، حتى سنة 2016 لتُزال الأوساخ، والقاذورات.
منعت السلطات، تحويل المكان إلى مأوى للمشردين، كما أزيلت عدد من الأكواخ الآيلة للسقوط.