هو أول نجم تلفزيوني شهدته الشاشات العربية والأكثر شعبية واحتراماً على مدار تاريخها. هذه حقيقة يصعب أن ينازع فيها أحد.
لم يكن حمدي قنديل، جملة عابرة في قصة الإعلام العربي، وحجم أثره ماثل في تجربته العريضة.
يقال عادة إن التلفزيون العربي، كما كان يطلق على «ماسبيرو» مطلع ستينات القرن الماضي، ولد عملاقاً وملهماً.
لم تكن تلك ضربة حظ، ولا مصادفة جرت بغير فكر استوفى مقومات ومعايير النجاح. كانت الكفاءة أساس اختيار المذيعين الجدد، بعضهم جاء من الإذاعة، وبعضهم الآخر لم يسبق له أن جلس خلف ميكروفون.
التحق بالتجربة الوليدة قادماً من العمل الصحفي، صعد على «سقالات» للوصول إلى مكتبه قبل أن يستكمل المبنى جاهزيته.
من رأيه أن نجاح التلفزيون؛ أي تلفزيون، يعتمد على أربعة معايير أساسية.
الأول: أن يكون للدولة مشروع وطني ودور قومي في محيطها.
والثاني: أن تحظى رسالته بإجماع شعبي.
والثالث: أن تنبع التجربة من رحم نهضة فكرية وثقافية.
والرابع: أن يحظى بمستوى مهني عالٍ.
هكذا أجاب في مذكراته على سؤال: كيف ولد التلفزيون عملاقاً؟
أية مقارنة بالأوضاع الحالية التي بات عليها الإعلام المصري لا تصح ولا تجوز، حيث تدهور المستوى المهني على نحو مزعج لا يمكن إنكاره. كيف ولماذا تدهورنا إلى هذا الحد؟ يفترض بالبداهة أن تراكم الخبرات، يُفضي إلى تحسين الأداء.
ما حدث هو العكس تماماً. للإعلام أصوله، فإذا غابت يصعب التعويل على اكتساب ثقة المشاهد. عندما تتراجع مساحات الحرية والتنوع الطبيعي، تتبدد صدقيته وينصرف الجمهور عنه.
القاعدة الأولى في العمل الإعلامي، حرية تدفق الخبر التي تكسبه الثقة العامة. حسب شهادة للرائد الإعلامي السيد الغضبان، الذي ظل متصلاً بصديقه حمدي قنديل حتى الأنفاس الأخيرة، فإن البدايات الباهرة لـ«ماسبيرو» نال منها غياب الحريات السياسية، «شأن الإذاعة والصحافة خضعت المادة السياسية في التلفزيون لرقابة صارمة».
استطاع التلفزيون أن يعوض هذا القصور في المجال السياسي، بتقديم الأعمال الثقافية والفنية والترفيهية بقدر عالٍ من التميز والاحترام.. وكان التلفزيون بحق، أحد أهم مصادر ثقافة التنوير في مختلف المجالات، وكانت المواد الترفيهية شديدة الرقي، فأسهمت في الارتقاء بأذواق الجماهير التي تأثرت بما سمعته وشاهدته.
في مثل هذه الظروف بكل أحلامها وتعرجاتها، بزغ نجم حمدي قنديل.
ارتبط صعوده ببرنامج «أقوال الصحف» وفكرته تبدو للوهلة الأولى عادية وتقليدية، لا تعطي فرصة كبيرة لنجاح أو شعبية، غير أنه أكسبها حيويتها وفرادتها، بقدر ما منحها من روحه وفكره.
لم يلتزم بما هو سارٍ في البرامج الأخرى، فالخبر تقاس أهميته بمدى الاهتمام العام، لا وفقاً للتراتبية الرسمية.
كان ذلك سبباً في وقف برنامجه حين وضع خبراً عن الرئيس جمال عبد الناصر، لم تكن له أهمية كبيرة في آخر البرنامج.
ذهب إلى منشية البكري سائلاً سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، إذا ما كان الرئيس يضايقه أن يضع خبراً يخصه في آخر البرنامج، وكانت الإجابة التي تلقاها منسوبة إلى عبد الناصر أن يحمل جرائده ويذهب إلى الاستديو فوراً.
بعد سنوات أخرى كان هو المذيع الذي قدم نائب الرئيس أنور السادات، مساء 28 سبتمبر 1970، وكان بكاؤه مسموعاً، فيما نعي عبد الناصر يتلى على الشعب.
هو عروبي قومي ناصري، أيد بكل وجدانه القضية الفلسطينية ضد التغول «الإسرائيلي»، ووقف بكل وضوح ضد حصار ليبيا والعراق، قبل احتلال عاصمته بغداد. لم يتنكر لحق عربي ولا صمت في أية قضية لها صلة بما يشغل أمته.
كانت تلك خياراته التي التزمها برنامجه الأسبوعي الأشهر رئيس التحرير في التلفزيون المصري مطلع القرن الحادي والعشرين.
تعرض لمضايقات رقابية متواصلة، ومنعت حلقات سجلت بالفعل من البث. اكتسب شعبيته من كارزميته، وصدقيته من التزامه بما يعتقد فيه.
تعددت منابره الإعلامية العربية التي عمل فيها، وكانت أهمها تجربته في فضائية دبي، التي بثت لسنوات برنامجه ذائع الصيت «قلم رصاص».
شارك بقدر ما يستطيع في طلب التغيير، فأيد حركة «كفاية» وشارك في «الجمعية الوطنية للتغيير» وانتصر لثورة يناير.
تطرق إلى مساحات حساسة ومؤلمة في حياته الخاصة وقصة زواجه من الفنانة القديرة نجلاء فتحي، الذي لم أسمعه ولو لمرة واحدة على طول علاقتنا الشخصية يناديها باسمها الفني، فهي دوماً على لسانه: زهرة.
سألني، وهو يفكر في عنوان مذكراته، كما كتب بنفسه في مقدمتها، إذا ما كان مناسباً أن يطلق عليها «عشت مرتين». أجبته بأكثر مما تتوقع، وقد يفاجئك أن عميد المسرح العربي يوسف وهبي، قال ذات مرة واصفاً حياته: «عشت ألف عام».
بقدر ثراء تجربته المهنية والسياسية والإنسانية «عاش مرتين»؛ مرة بعدد السنين، ومرة ثانية بعمق أثره في الحركة العامة لمجتمعه.
تحت وطأة المرض الشديد والعزلة الإجبارية التي فرضها على نفسه، وفرضتها عليه ظروفه من مشاكل في الكلى تستدعي غسيلها ثلاث مرات في الأسبوع، ومشاكل في القدرة على المشي بعد حادث تعرض له، بدا زاهداً في الحياة وغادر محبيه دون وداع أخير، كأنه ضن علينا أن يعيش بيننا لمرة ثالثة.