مجدداً، ينوء لبنان تحت ثقل الحسابات الإقليمية لـ«حزب الله»، والتي تدفعه إلى إخضاع المعادلة الداخلية لتلك الحسابات.
باتت القناعة راسخة أكثر عند من يفتّشون عن أسباب انسداد أزمة تأليف الحكومة في لبنان، بأن وراء تشدد الحزب في شروطه من أجل الإفراج عن الحكومة، أجندة خارجية بذرائع محلية. والعين باتت أكثر على تلك العلاقة الخفية بين ما يجري في العراق وبين ما يحصل في لبنان على صعيد إعادة تشكيل السلطة بعد الانتخابات في شهر أيار (مايو) الماضي، في البلدين اللذين تتمتع إيران فيهما بنفوذ كبير ووجود يستند إلى قوى هي جزء من النسيج الاجتماعي لكل منهما.
منذ أن ترك الحزب لحليفه «التيار الوطني الحر» رفع السقف في مواجهة تمثيل منافسيه في الحكومة خلال الأشهر الخمسة الماضية من تكليف سعد الحريري تأليفها، كان يضمر إفساح المجال لغيره إطالة الأزمة وإتعاب الفرقاء، سواء كانوا حلفاء أو خصوماً. ذلك كله تم تحت عنوان التجاذب الطائفي والسياسي حول الحصص والمواقع. تعليقات الحزب على التأويلات بأنه مستعجل على التأليف لأن مصلحته في وجود سلطة كاملة المواصفات القانونية يستظل شرعيتها في وجه العقوبات، بتأكيد الأمين العام السيد حسن نصر الله بـ«أننا لسنا محشورين»، كانت الوجه الآخر لعدم اكتراثه بإطالة أمد الفراغ الحكومي.
والعودة قليلاً إلى الوراء لا تخذل القائلين إن العرقلة أو التسهيل في تأليف الحكومة في العراق يصيب لبنان بالعدوى في الحالتين. ومع اختلاف المعطيات الداخلية (وبعضها مرتبط بالدستور والسياق المحلي) في كل من بغداد وبيروت، تطلب الأمر 4 أشهر للاتفاق على رئاسة عادل عبدالمهدي في بلاد الرافدين (مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي) بعد أن حصل التقاطع بين خيار واشنطن دعم ترشحه (قبل أشهر)، وبين تكيّف قاسم سليماني مع رغبة المرجعية الشيعية في تبوؤ المركز من خارج نادي الحكام السابقين… وفي لبنان، تطلب الأمر ما يوازي هذه المدة من أجل حل عقدة إسناد حقيبة رئيسية لحزب «القوات اللبنانية». في الحالتين، عادت الأمور فتعقدت. لا غرابة في أن يضطر عبدالمهدي أن يصدر حكومته ناقصة 8 وزراء قبل أيام (لم يحصلوا على ثقة البرلمان)، لا سيما بالنسبة إلى حقيبتي الدفاع والداخلية، ثم أن يشتد التنافس على الحقيبة الثانية بين مرشح «الحشد الشعبي» (رئيسه السابق) الموالي لإيران ومرشح آخر موالٍ لها أيضاً… فينال رئيس الحكومة ثقة جزئية. هل هي مصادفة أن يشتد التعقيد بعد إعلان عبدالمهدي أن العراق سيتعامل مع العقوبات الأميركية القاسية المنتظرة بعد غد الأحد على طهران، وفق مصالحه، فيمتنع عن تصدير النفط العراقي إلى إيران براً؟
قد تكون مصادفة ومن سخرية القدر، أن الحقائب التي يجري التنازع على أسماء وزرائها مشابهة للتي صمّت آذان اللبنانيين في سماع محاولات إسنادها إلى هذا أو ذاك، إذا أراد المرء الغوص في تفاصيل قد لا تكون دليلاً على تماثل التأزم بين البلدين. لربما كان التماثل في تعيين الأقارب ومعيار المحسوبية، دليلاً على انحدار المشهد السياسي في بلدين يهدران فرص الخروج من أزماتهما.
لكن هل هي مصادفة أن يحتفظ «حزب الله» بحقه في انتقاد إدارة الحريري في بيروت لمعالجة العراقيل من أمام الحكومة تارة بأن يعيب عليه مراعاته لمطالب «القوات اللبنانية»، وأخرى بامتعاضه من إثارته محاذير إصراره على تولّي وزارة الصحة، على المساعدات الأميركية والغربية للبنان، مع صدور الدفعة الجديدة من العقوبات المشددة عليه من دونالد ترامب في 26 تشرين الأول، للتضييق على تمويله؟
فأن يتوّج الحزب حملته عبر حلفائه على الحريري، بامتناعه عن تسليم أسماء وزرائه ليحول دون صدور مراسيم ولادة الحكومة، يستبطن ما هو أبعد من إصراره على تمثيل حلفائه من النواب السنة الخصوم للرئيس المكلف. فبعدما انتهى فصل التفرّج على الخصومات المسيحية المتمادية تتولى التأزيم، بقبول «القوات» ما عرض عليها، جرى تفعيل العقدة الجاهزة.
سواء هي رسالة إلى الأميركيين، أو دول الخليج، بالقدرة على إمساك البلد من تلابيبه، أو أنه يرمي ورقة تفاوض لخصوم طهران بالتزامن مع إعلان الوزير محمد جواد ظريف ترحيبه بوساطة مسقط مع الأميركيين، فإن من عادة «حزب الله» أن يضمر تأزماً كبيراً نتيجة مناورة من هذا النوع «يخبئها». وإذا كان الحريري اعتمد الديبلوماسية الهادئة بمواجهة العرقلة، للإبقاء على «وهم» الصدمة الإيجابية لتأليف الحكومة، أملاً بمعالجات اقتصادية تحول دون الانهيار في لبنان، فإن البعض واكب ما يحضر للبلد تارة بنهج صبياني وتارة آخرى بلا مبالاة.