لم يكن مستغرباً أن يخيب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في حديثه، أول من أمس الثلاثاء، أمام أهم محطة قيادية في حزبه، حزب العدالة والتنمية، ظن؛ لا بل ظنون أركان غرفة عمليات استهداف المملكة العربية السعودية في الدوحة، ويقول الحقيقة من دون أي زيادة أو نقصان، بالنسبة لقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي. وهي حقيقة مطابقة في محتواها الرئيسي وبخطوطها العامة، وأيضاً بتفاصيلها الأساسية، لما كانت أعلنته الرياض، وكررت إعلانه مرات عدة حول هذه «الواقعة» التي استنكرها وأدانها كبار المسؤولين السعوديين، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، ووزير خارجيته.
كانت غرفة عمليات الدوحة، ومعها رهط، قد وضعوا كل إمكاناتهم، ووظفوا كل علاقاتهم العربية والدولية، وفوق كل هذا حصة مجزية، ليس من أموالهم، وإنما من أموال الشعب القطري الشقيق العزيز، من أجل أن يتبنى رجب طيب إردوغان رواياتهم المنتحلة التي شاركت في انتحالها جهات وأجهزة كثيرة حول «واقعة» مقتل خاشقجي، واتهام المملكة العربية السعودية بما ثبت ومنذ اللحظات الأولى أنه اتهام «مفبرك»، وأن الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، هي ما قاله الرئيس التركي أمام قادة حزبه أول من أمس الثلاثاء.
لقد ثبت بالأدلة القاطعة المانعة أنَّ «فبركات» غرفة عمليات الدوحة كانت كلها كذباً في كذب، ويقيناً سيأتي يوم غير بعيد سيثبت فيه أنه لو أن واقعة إسطنبول لم تكن، لكانت هناك واقعة أخرى ما دام هدف هؤلاء الذين تم استيرادهم مبكراً، وهدف الذين يديرونهم ويقفون خلفهم، هو استهداف المملكة العربية السعودية الدولة، التي هي بقيادتها وبشعبها تشكل الجدار الاستنادي لهذه الأمة، سابقاً وحتى الآن، ولاحقاً وإلى ما يشاء جلَّ شأنه.
والسؤال الذي تردد كثيراً في الأيام الأخيرة هو: لماذا يا ترى كل هذا الاستهداف لهذه الدولة العربية، الذي تقف وراءه إيران وخلفها بعض الأتباع، وبعض الدول التي من المفترض أنها شقيقة، وبعض الجيوب والدوائر الغربية التي لا تخفي ارتباطها بالحركة الصهيونية؟ وهذه مسألة كانت واضحة، وهي لا تزال واضحة ومعروفة، ولا ينكرها أصحابها، لا بل إنهم بقوا يتباهون بها وما زالوا، ومنذ عهود وسنوات طويلة، والمفترض أن كل معني يعرف هؤلاء معرفة أكيدة، اللهم إلا من يتجنب معرفة الحقيقة وأي حقيقة!
والجواب هو: أن النخلة العالية والمرتفعة المثمرة هي التي تضرب بالحجارة، وأن المملكة العربية السعودية تُسْتهدف كل هذا الاستهداف لأنها دولة مواقف، ولأنها دائماً وأبداً لا تتردد في دعم الأشقاء عندما يحتاجون إليها، ولأنها دائماً وأبداً ترابط في خنادق العرب الأمامية. وعلى من يريد التأكد من هذا مراجعة تاريخ القضية الفلسطينية، والصراع العربي – الإسرائيلي، والعودة لسجلات العدوان الثلاثي على مصر، وسجل الثورة الجزائرية، وأيضاً كل هذا الذي يجري الآن في اليمن وفي سوريا وفي العراق وفي ليبيا.
ولولا هذا، ما كان من الممكن أن يكون هناك هذا التحالف الشيطاني الذي تتزعمه إيران الخامنئية، والمقصود هنا هو هذا النظام البائس، وليس الشعب الإيراني العظيم الشقيق بالفعل، والذي تشارك فيه بعض الدول العربية «المايكروسكوبية» الحاقدة، والذي يشكل غرفة عملياته الإعلامية من عدد من الذين من المفترض أن مواقعهم ليست هذه المواقع، وإنما في خنادق الدفاع عن فلسطين وعن القضية الفلسطينية، وليست في خنادق «الزندقة» السياسية، والوقوف إلى جانب الباطل وهم يعرفون أنه باطل، ويستهدفون الحق وهم يعرفون أنه حق، ويعرفون أن أصحابه قلوبهم وعقولهم في فلسطين، وأن كل إمكاناتهم في تصرف الشعب الفلسطيني.
والمهم، وكل هذا الذي سلف ذكره وتم التطرق إليه مهم جداً؛ لا بل في غاية الأهمية، أن المملكة العربية السعودية، باعترافها بحقائق ما جرى في إسطنبول بالنسبة لـ«واقعة» مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بعدما اتضحت هذه الحقائق لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، أطال الله في عمره وسدد على طريق الخير والحق خطاه، قد أثبتت أنها دولة تثق بنفسها، وأنها لا تتردد في الانحياز إلى الحق، وأنها الأكثر قسوة على كبار مسؤوليها في مواقع المسؤولية، عندما يرتكبون أخطاء كالخطأ الذي ارتُكب في القنصلية السعودية، الذي وصل استنكاره إلى حدِّ اعتبار أن الذين ثبتت مسؤوليتهم عنه مجرمون ستتم محاكمتهم ومحاسبتهم كقتلة، حسب القوانين السارية، وقبل ذلك حسب الشريعة الإسلامية.
وعليه، فإنه لا يمكن أن يكون كبار قادة الدول الكبرى، وقادة معظم الدول العربية والإسلامية، ودول العالم الثالث، على خطأ، وتلك المجموعة الحاقدة التي تأتمر بأمر إيران وغير إيران هي الصادقة والصحيحة، ولذلك فإن التعاطي مع هذه المجموعة ومع «المستأجرين» من قبلها بالكلام الأخوي غير ممكن؛ لا بل هو في غاية الاستحالة، ما دام هناك كل هذا التأييد الفاعل والصادق للموقف السعودي بالنسبة لهذه «الواقعة» المستنكرة والمرفوضة، التي سيواجه منفذوها من دون العودة إلى مرجعيتهم أشد العقوبات في الأيام القادمة، وعندها سيعرف الحاقدون والمستأجرون من قبلهم أي منقلب سينقلبون.
لم تتردد القيادة السعودية عندما انكشفت الحقائق بالنسبة لواقعة مقتل الصحافي جمال خاشقجي، في إدانة هذه الجريمة واستنكارها، والمبادرة إلى احتجاز المسؤولين عنها، الذين قاموا بما قاموا به من وراء ظهر قياداتهم ومن دون علمها، ومحاكمتهم، وربما بإشراف دولي، إذا كانت القوانين السارية في هذا البلد تسمح بذلك، وإيقاع العقاب الذي يستحقونه عليهم، وهذا هو ما أخذته الدول التي ساندت الموقف السعودي بعين الاعتبار، وبغض النظر عن كل هذه التلفيقات التي بقيت تصدح بها وسائل غرفة العمليات الإعلامية في الدوحة، منذ الثاني من أكتوبر، وقبل ذلك، وحتى الآن. وأيضاً ربما لسنوات مقبلة طويلة.
إنه لم يعد هناك أي مجال أكثر من هذا، فالمسؤولون عن هذا الخطأ الذي يرتقي إلى مستوى الجريمة قد تم اعتقالهم، وهم الآن يخضعون في السجون التي تم زجهم فيها لتحقيقات قاسية، وكل هذا في حين أن العالم بكل ثقله بات يقف إلى جانب المملكة العربية السعودية، ويؤيد إجراءاتها، ويثق بروايتها لما جرى في هذه «الواقعة»، مما يعني أن الطرف الآخر الذي يستهدف هذه الدولة التي لها في أعناق الآخرين ديون كثيرة، قد أصبح معزولاً وغداً يجتر ذاته، والذي من المؤكد أنه سيواصل ما كان بدأه ومنذ فترة سابقة بعيدة، ضد دولة ذات تاريخ مشرق، وذات حاضر نظيف، وأيضاً ذات مستقبل واعد، بدأت تتضح أبعاده المنتظرة، ليس منذ الآن وإنما منذ فترة سابقة بعيدة.
الآن، وبعد هذا كله، لم يعد هناك أي مجال لأي نظرة ضبابية مصطنعة لموقف المملكة العربية السعودية من هذا الخطأ الفادح، الذي يرتقي حسب الموقف الرسمي السعودي إلى مستوى الجريمة، فالأمور باتت واضحة ومعروفة، إلا لمن لا يريد أن يعرف، ولمن يواصل إغماض عينيه حتى لا يرى وبوضوح هذه الحقيقة. إن هذا هو موقف تلك الدولة «المايكروسكوبية»، وتلك المجموعة الإعلامية التي تخلت عن قضيتها المقدسة، وباتت تنخرط في معاداة دولة، لم ولن تتخلى عن تبنيها لهذه القضية التي لا قضية أهم منها.
وهكذا، وفي النهاية، فإن انعقاد «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض، وكل هذا الحضور النوعي، وكل هذه الإمكانات المالية، يؤكد أن المملكة العربية السعودية، صاحبة الولاية وصاحبة الحق، بالنسبة لمقتل مواطنها جمال خاشقجي، وأيضاً بالنسبة لمعاقبة الفاعلين، كان ولا يزال غضبها طافحاً؛ لكنها بقيت تواصل مسيرتها الخيرة، وبقيت قافلتها تغضُّ النظر، ولا تتأثر بصراخ غرفة العمليات الإعلامية في هذا البلد العربي، الذي من المفترض أنه شقيق وجار عزيز، وأن ما يوجع أياً من أشقائه يوجعه!
220 4 دقائق