يمكن اعتبار نظام القائمقاميتين في جبل لبنان (1845- 1861) أول تجربة لنظام مناطق خفض التصعيد الذي ابتدعته روسيا ومعها إيران وتركيا في سورية. الظروف التي كانت قائمة في الجبل بعد انهيار نظام الإمارة في حضن السلطنة العثمانية جعلت حكام تلك السلطنة يبتدعون النظام المذكور في الوقت الضائع، خوفاً من نوايا الدول الكبرى الطامعة بالتركة العثمانية، ومحاولة لمنع تلك الدول من تحقيق أهدافها. أنشئت قائمقامية شمالية للمسيحيين وأخرى جنوبية للدروز ووضعت لهما بدايات نظام حكم ذاتي مهدد في كل لحظة باجتهادات خورشيد وأقرانه، واستمر الوضع على هذا النحو إلى أن جرى انضاج الطبخة نهائياً فتكرست أدوار الدول الكبرى (النمسا وبروسيا وروسيا وفرنسا وإنكلترا) في نظام المتصرفية الذي سيعيد توحيد الجبل تحت راية متصرف أجنبي ينتمي إلى حاشية السلطان، ويخضع لفيتو أي من الدول المذكورة التي شاركت ووافقت على اختياره.
ابتدعت مناطق خفض التصعيد في سورية في مناخ عجز الأمم المتحدة عن السير في تنفيذ روحية بيان جنيف، وانخراط القوى الثلاث روسيا وتركيا وإيران مباشرة في المعارك على الأرض، من دون برنامج يجمعها أو أهداف توحدها. فقد خاضت إيران الحرب بشعارات مذهبية صرف، وضمن رؤية لا تنكر الرغبة في إقامة هلال «شيعي» من طهران إلى لبنان، وتدخلت تركيا تحركها خلفيات تراوح بين طموحات الخلافة العثمانية البائدة والسياسات «الإخوانية السنية» التي تقود حزب أردوغان ، أما روسيا التي فكرت يوماً ما باستعادة القسطنطينية وتخوض اليوم معركة مع بطريركها المسكوني لانحيازه إلى كنيسة كييف، فأنها في المبدأ ضد «الإخوان» السنة وضد «إخوانهم» في طهران، وهي لم تكف عن الحديث عن سورية الموحدة العلمانية التي تحفظ حقوق «شعوبها».
تناقضات البلدان الثلاثة لا يمكن أن تسهم في حلول حقيقية، وهو ما قادها تحت ضغط الضرورة إلى ابتداع مناطق خفض التصعيد المذكورة، لتتحول إلى مساحات قضم لاحق كيفما تيسر باسم النظام السوري وحفظاً لمصلحته التي فيها حتى اللحظة مصلحة للجميع. وزاد في حاجة الأطراف إلى هذه الصيغة الموقتة سلوك الطرف الرابع في الحرب على الأرض، الطرف الأميركي الذي يمسك بشرق الفرات وغازه ونفطه، ولا يتقدم خطوة لمشاركة الفرسان الثلاثة في مشروعاتهم.
هنا يكمن في النهاية مقتل نظام مناطق وقف التصعيد الذي يستمر تصعيداً وترتيباً لمناطق تقاسم النفوذ بين البلدان الثلاثة، ويعجز عن توفير الأمان للسوريين العاديين، ويخفق في إنتاج أي تسوية نهائية. وعلى ما يبدو ستنتظر هذه التسوية انخراط أميركا في لحظة ما كي يحصل انتقال سورية من نظام القائمقاميات إلى نظام المتصرفية.