نون والقلم

عبدالله الأيوبي يكتب: مصر وروسيا.. حنين لم ينقطع

تكتسب زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لروسيا الاتحادية أهميتها من كونها تأتي تجسيدا لعلاقات تاريخية تعود إلى عقود طويلة من الزمن، هذه العلاقات تستند إلى جذور تاريخية ارتقت خلالها العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتي السابق (روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفيتي الشرعية) إلى ما يشبه التحالف السياسي على المستوى العالمي وخاصة أن مصر عبدالناصر عندما تعرضت لحصار ومضايقة الدول الرأسمالية بعد ثورة 23 يوليو وجدت الدعم الكامل من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى، هذه العلاقات استمرت رغم المطبات التي واجهتها بعد رحيل الزعيم التاريخي لمصر ومهندس هذه العلاقات، جمال عبدالناصر، وقد اتضح الحنين إلى تلك الفترة من الدفء الذي تميزت به العلاقات بين الجانبين في الكلمات التي سطرها الرئيس السيسي أمام مجلس النواب الروسي حين أشار إلى دور الاتحاد السوفيتي في استعادة مصر لأراضيها المحتلة والدعم الذي حظي به الاقتصاد المصري من جانب الأصدقاء السوفيت.

منذ توليه قيادة مصر بعد ثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، بعد حالة من عدم الاستقرار السياسي الذي أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس السابق حسني مبارك والصراع الذي نشب مع جماعة الإخوان المسلمين، شرع الرئيس السيسي في القيام بتحركات سياسية إقليمية ودولية والعمل على إعادة الدور الإقليمي والدولي الذي يليق بجمهورية مصر العربية الشقيقة، هذا الدور الذي تراجع كثيرا بعد رحيل عبدالناصر، لم يضع الرئيس السيسي أوراق مصر كلها في سلة واحدة، كما حدث مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي أطاح بالعلاقات التاريخية بين بلاده والاتحاد السوفيتي ووضع ما تصل نسبته إلى 99 بالمائة من أوراقه على الطاولة الأمريكية الأمر الذي انعكس سلبا على الدور الإقليمي والدولي لمصر.

الرئيس السيسي يدرك جيدا أن إعادة دور مصر الكبير الذي يليق بإمكانياتها وبقدارتها وبتاريخها أيضا، لا يـتأتى إلا من خلال نسج علاقات متوازنة مع جميع الدول، وخاصة تلك التي لها دور كبير على الساحة الدولية، أضف إلى ذلك فإن العلاقات الدولية يجب أن تقوم على احترام المصالح المشتركة والابتعاد عن سياسة الوصاية والابتزاز، والرئيس السيسي تحرك على الساحة الدولية ويعمل من أجل تثبيت سياسة متزنة تخدم مصالح مصر ولا تضر بعلاقاتها مع مختلف الدول الإقليمية والدولية، أضف إلى ذلك فإن تحركه هذا مدعوم بوقائع تاريخية لا يجوز إغفالها أو شطبها.

هذه الوقائع تتحدث عن طبيعة العلاقات التي كانت تربط مصر مع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية وباقي الدول الاشتراكية السابقة، فهذه الدول تحديدا قدمت إلى مصر من المساعدات ما جعلها قادرة على الشروع في بناء نهضتها ومشروعها التحرري الاستقلالي، والرئيس السيسي استحضر كل ذلك خلال لقاءاته مع المسؤولين الروس، كما فعل أيضا خلال زيارته السابقة إلى جمهورية الصين الشعبية، هذه الطريقة في إدارة العلاقات مع مختلف الأطراف الدولية من شأنها أن تقوي من الموقف المصري ومن مكانة مصر لدى المجتمع الدولي.

فجمهورية مصر العربية ليست دولة هامشية، سواء في محيطها الإقليمي أو القاري والدولي بشكل عام، لديها من الإمكانيات ما يؤهلها لأن تكون في مصاف الدول المؤثر بقوة في الأحداث، وخاصة تلك التي تشهدها المنطقة، وقد أثبتت ذلك من خلال الدور الذي اطلعت به ومارسته عندما تمكن جمال عبدالناصر من أن يترجم إمكانياتها إلى واقع ملموس مستندا أولا وقبل كل شيء على قدرات بلاده وإمكانياتها الذاتية ثم بمساعدة الأصدقاء والحلفاء الذين لم يخذلوا القيادة الناصرية في أحلك الظروف، على عكس الدول الرأسمالية التي سعت إلى وأد الانطلاقة المصرية وسياسة الاستقلال والتحرر من الوصاية التي حاولت تلك الدول فرضها على مصر.

فالرئيس المصري منطلقا من إيمانه وقناعته بأهمية استقلال القرار المصري يصر على التوجه إلى جميع الدول التي تبادل مصر الاحترام، ولا تسعى لجعل مصر خاضعة لسياستها، وهذا ما وجده لدى القيادة الروسية وكذلك القيادة الصينية، فالدولتان عندما وقفتا مع مصر الناصرية في سنوات الحصار والمضايقة التي مارستها الدول الاستعمارية، لم تسعيا قط إلى الهيمنة على القرار السياسي المصري، رغم علاقات التحالف الوثيقة مع الحكم الناصري في تلك الفترة، وهذا ما لمسه الرئيس السيسي لدى قيادتي البلدين، فروسيا الحالية ليست روسيا السوفيتية، كما أن صين ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ليست صين القرن الحادي والعشرين، على الأقل من الناحية الأيديولوجية، رغم تمسكها بنظامها الاشتراكي وبقيادة الحزب الشيوعي الصيني.

 فالعالم، كما كان سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، عالم متعدد الأقطاب، سيبقى كذلك رغم انهيار المعسكر الأول، فالصين الآن هي القوى الاقتصادية العالمية الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية وتوقعات المراقبين تشير إلى أنها في الطريق لإزاحة أمريكا عن موقع الصدارة، فيما روسيا تزحف ببطء نحو المكانة والموقع الذي كان يحتله الاتحاد السوفيتي السابق، وخاصة أنها ورثت عن الاتحاد إمكانيات علمية وعسكرية هائلة، فإذا كانت الصين هي القوى الاقتصادية الثانية في العالم، فإن روسيا هي أيضا القوى الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية من حيث القوة العسكرية، وهي تطمح لأن تستغل هذه القدرات للنهوض وتطوير دورها الدولي، وبالتالي فإن من مصلحة مصر، كما هي من مصلحة غيرها أن تنسج علاقات مع جميع القوى المؤثرة في العالم كي لا تقع تحت طائلة ابتزاز هذه القوى أو تلك، وهذه هي السياسة التي يبدو أن الرئيس السيسي مقتنع بها ويطبقها على أرض الواقع.

نقلا عن صحيفة الخليج البحرينية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى