نون والقلم

خيرالله خيرالله يكتب: أين أميركا في العراق…؟

لا بدّ من النظر الى ما جرى في العراق من زاوية العلاقة الأميركية – الايرانية. هذا لا يعني ان التطورات الأخيرة التي شهدت تكليف عادل عبدالمهدي تشكيل الحكومة الجديدة وانتخاب الشخصية الوطنية المرموقة برهم صالح رئيسا للجمهورية ومحمد الحلبوسي (من سنّة ايران) رئيسا لمجلس النواب كلّها سلبيات.

يكفي ان يكون برهم صالح الكردي الذي يضع عراقيته فوق أي اعتبارات أخرى، رئيسا للجمهورية للقول ان شمعة اضيئت في هذه الظلمة العراقية. لكن شخص برهم وحده، بكل ما يمتلك من كفاءات وحسن نيّة ونزاهة وواقعية، لا يكفي لاخراج العراق من الدوامة التي اصبح في اسرها، خصوصا ان صلاحيات رئيس الجمهورية محدودة بموجب الدستور الجديد. معظم الصلاحيات في يد رئيس الوزراء الشيعي الذي يمارس دور القائد الأعلى للقوات المسلّحة أيضا.

واضح ان ايران سجّلت نقاطا على الولايات المتحدة في العراق. فاز الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الذي يعتبر المسؤول الايراني الاول عن ملفّ العراق، اذ لا يرسل تقاريره سوى الى «المرشد» علي خامنئي، على المبعوث الاميركي الخاص برت ماكغورك.

لم يحقق سليماني انتصارا حاسما على ماكغورك بعد، لكنّ كلّ الدلائل تشير الى ان إيران استطاعت تحسين مواقعها في العراق بعدما فقدت الكثير في السنوات الأخيرة، أي منذ خروج نوري المالكي من موقع رئيس الوزراء في العام 2014.

يكفي ايران انّها استطاعت التخلّص من حيدر العبادي الذي اتخذ في الأشهر القليلة الماضية، خصوصا في مرحلة ما بعد الانتخابات التي أجريت في الثاني عشر من مايو الماضي، مواقف يفهم منها انّه وضع مصالح العراق فوق مصالح ايران.

دفع العبادي ثمن رهانه على الدعم الاميركي وعلى وطنية عراقية، خصوصا في الاوساط الشيعية التي بدأت تظهر تذمرا من الطريقة التي ادارت بها ايران العراق منذ سلمتها إياه الولايات المتحدة على صحن من فضّة في العام 2003.

هناك الآن رئيس للجمهورية يمتلك قدرات كبيرة وصلاحيات محدودة. انّه شخص عملي قبل ايّ شيء آخر. لا يمكن لبرهم الاقدام على ايّ عمل متهوّر، خصوصا انّه مطلع على كل الملفات، إضافة الى انه يعرف في العمق الأهمية الجغرافية لايران، على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك الحساسيات الموجودة بينها وبين الاكراد. لا يمكن القول ان برهم صالح معاد لإيران او انّه في جيبها، لكنّ الملفت انّه على علاقة طيبة بالقوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول اوروبا في الوقت ذاته.

يستطيع صالح لعب دور يصبّ في إعادة الهدوء والاستقرار والطمأنينة الى العراق في ظلّ المشاكل الكبيرة التي يعاني منها البلد. ستزداد هذه المشاكل في مرحلة ما بعد العقوبات الأميركية الجديدة على ايران التي تدخل حيز التنفيذ في الأسبوع الاوّل من نوفمبر المقبل. سيكون مطلوبا من العراق الانحياز الى ايران انحيازا كاملا. هذا ما رفضه العبادي. وهذا ما دفع ثمنه غاليا، اقلّه حتّى الان. وهذا ما دفع ايران الى تأديبه.

سيكون لبرهم دور على الصعيد الوطني وان في حدود معيّنة هي حدود صلاحياته كرئيس للجمهورية. ولكن ماذا عن عبدالمهدي؟ ماذا يعني حدوث التقاء بين الاميركيين والايرانيين والمرجعية الشيعية عند هذه الشخصية السياسية من خارج «حزب الدعوة» الذي يمتلك تاريخا حافلا بالتقلبات السياسية. بدأ بعثيا وانتهى لدى «المجلس الاعلى للثورة الإسلامية» الذي اسسه محمد باقر الحكيم. مرّ، مثله مثل الكثير من الشباب المتحمس الباحث عن حيثية بتقلبات. التحق بالتيار الماوي (نسبة الى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ) الذي قاتل النظام العراقي في منطقة الاهوار جنوب العراق مطلع سبعينات القرن الماضي. بعد فشل تلك التجربة، انتقل الى لبنان والتحق بما يسمّى «الكتيبة الطلابية» لحركة «فتح» التي قاتلت الميليشيات المسيحية اللبنانية في الجبال العالية في العام 1976 و1977. خرج بعد ذلك مع المقاتلين الفلسطينيين الذين انسحبوا من لبنان صيف العام 1982.

لا شكّ ان عبدالمهدي يمتلك تجربة سياسية غنيّة. هل ستساعده هذه التجربة في تغيير شيء في العراق بعدما خبر اليسار ومغامراته وتجربة الأحزاب الدينية؟ سيعتمد الكثير على الهامش الذي ستتركه له ايران. لكن السؤال الاهمّ سيكون مرتبطا بالشارع العراقي ومطالب الناس التي انتفضت على السلطة صيف هذه السنة. هل لدى عبدالمهدي أي حل من أي نوع لازمة الكهرباء والمياه وللفوضى الأمنية. ما الذي سيفعله عندما سيتوجب عليه مواجهة ازمة معيشية من النوع الذي تعاني منه مدينة مثل البصرة؟

كان ملفتا ان الجنرال سليماني لعب لعبة في غاية الدهاء. أوصل عبدالمهدي الى موقع رئيس الوزراء بفضل كتلتي «سائرون» و«الفتح»، أي بواسطة مقتدى الصدر وهادي العامري، الذي هو في الوقت ذاته زعيم ميليشيا مذهبية منضوية تحت «الحشد الشعبي». عاجلا ام آجلا، سيتوجب على رئيس الوزراء تحديد موقف من الدور الذي سيلعبه «الحشد الشعبي» في تحديد مستقبل العراق.

في النهاية لا يمكن لميليشيات مذهبية حكم العراق وان يكون الجيش مجرّد متفرّج على ما يدور في البلد، اللهمّ الّا اذا كان المطلوب تكرار تجربة ايران الفاشلة في العراق، أي تحوّل «الحشد الشعبي» الى الممسك بمفاصل السلطة، كما عليه الحال مع «الحرس الثوري» في ايران. هل جيء بعبدالمهدي لتنفيذ هذه المهمة الايرانية؟ هل يقبل بلعب هذا الدور، هو الذي منعته ايران في 2005 من ان يكون رئيسا للوزراء؟

يبقى سؤال في غاية البساطة. اين أميركا في العراق؟ من الواضح ان هناك ضياعا اميركيا جعل ايران تشقّ صفوف السنّة وتأتي بالحلبوسي الى موقع رئيس مجلس النوّاب. هذا انجاز إيراني كبير في العراق. للمرّة الاولى هناك كتلة سنّية تابعة لها في مجلس النواب. يشبه ما فعلته ايران في العراق ما حاولت عمله في لبنان عبر تقليص عدد نوّاب «كتلة المستقبل» في المجلس النيابي، اذ ركزت بكلّ الوسائل، عبر ادواتها في الداخل، على إنجاح مرشحين سنّة معادين للرئيس سعد الحريري وذلك في سياق مشروعها الهادف الى بسط وصايتها على البلد كلّه.

مرّة أخرى، لا مفرّ من الاعتراف بان إيران سجلت نقاطا على اميركا في العراق. لكنّ ما لا مفرّ منه في المقابل هو التساؤل ما الذي سيؤول اليه الوضع في ايران؟ هل الولايات المتحدة جدّية في الذهاب الى النهاية في تخيير ايران بين ان تكون دولة طبيعية في المنطقة او تدفع ثمن مغامراتها خارج ارضها، مغامراتها في العراق وسورية ولبنان واليمن والبحرين على وجه التحديد.

يبدو ان تمزيق اميركا لاتفاق الصداقة مع ايران للعام 1955 والذي اعلن عنه وزير الخارجية مايك بومبيو لا يشير الى ان التفاهم الاميركي – الايراني على تولي عبدالمهدي موقع رئيس الوزراء في العراق، يتجاوز حدود العراق…

نقلا عن صحيفة الراي الكويتية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى