من يُقلب صفحات التأريخ يلاحظ وبوضوح تام إن العديد من الحروب التي نشبت بين الدول أو بين المجتمعات داخل الدولة الواحدة أو بين القبائل نجد هناك محرض يعمل على إذكاء الفتنة بين الأطراف المتناحرة لأغراض مصلحية ذات بعد خاص أما من أجل الجاه أو المال أو المنصب أو لأحقاد دينية وعقائدية أو لمرض نفسي أو بسبب عمالة لدولة أو جهة معينة من مصلحتها أن تكون في هذا المجتمع أو ذاك فتنة وصراع.
وكما قلنا هذا موجود في صفحات التأريخ ولعل ما ذكره المحقق الصرخي في المحاضرة الخامسة والعشرين من بحث «وقفات مع توحيد ابن تيمية الجسمي الأسطوري» من موارد تأريخية في كتاب «الكامل في التاريخ» لإبن الأثير يسلط الضوء على أوضح مثال على ما ذكرناه، حيث يقول المحقق الصرخي نقلًا عن ابن الأثير: (سَارَ صَلَاحُ الدِّينِ عَنْ حَرَّانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ،… فَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى مَدِينَةِ بَلَدٍ سَيَّرَ أَتَابِكْ عِزُّ الدِّينِ(زَنكي) وَالِدَتَهُ إِلَى صَلَاحِ الدِّينِ وَمَعَهَا ابْنَةُ عَمِّهِ نُورِ الدِّينِ مَحْمُودِ بْنِ زِنْكِيٍّ وَغَيْرُهُمَا مِنَ النِّسَاءِ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الدَّوْلَةِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ الْمُصَالَحَةَ، وَبَذَلُوا لَهُ الْمُوَافَقَةَ، وَالْإِنْجَادَ بِالْعَسَاكِرِ لِيَعُودَ عَنْهُمْ….وَإِنَّمَا أَرْسَلَهُنَّ لِأَنَّهُ وَكُلَّ مَنْ عِنْدَهُ ظَنُّوا أَنَّهُنَّ إِذَا طَلَبْنَ الشَّامَ أَجَابَهُنَّ إِلَى ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَمَعَهُنَّ ابْنَةُ مَخْدُومِهِ وَوَلِيِّ نِعْمَتِهِ نُورِ الدِّينِ…..فَلَمَّا وَصَلْنَ إِلَيْهِ أَنْزَلَهُنَّ، وَأَحْضَرَ أَصْحَابَهُ وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُهُ وَيَقُولُهُ، فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ بِإِجَابَتِهِنَّ إِلَى مَا طَلَبْنَ مِنْهُ، وَقَالَ لَهُ الْفَقِيهُ عِيسَى وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمَشْطُوبُ، وَهُمَا مِنْ بَلَدِ الْهَكَّارِيَّةِ مِنْ أَعْمَالِ الْمَوْصِلِ: مِثْلُ الْمَوْصِلِ لَا يُتْرَكُ لِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ عِزَّ الدِّينِ مَا أَرْسَلَهُنَّ إِلَّا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ حِفْظِ الْبَلَدِ…).
وهنا علق المحقق الصرخي على هذا المورد قائلاً: ((… لاحظ: هنا الوسوسة، ومن هنا تعرف ما هي شخصيّة صلاح الدين ومن الذي يوسوس له، التفت جيدًا: هذا نهج عام لصلاح الدين ولغيره؛ أئمّة الضلالة هي التي توسوس وتغرّر بالآخرين؛ بالأمراء والقادة والحكام الملوك والسلاطين)).
ومن خلال هذا المورد وهذا التعليق نلاحظ وبكل وضوح كيف لعب الفقيهَين (عيسى وعلي) دور في إفشال مشروع الصلح بين أتابك وبين صلاح الدين من خلال عبارتهما «ومثل الموصل لايترك لإمرأة» فكان لهذه العبارة دور واضح في إذكاء الفتنة واستمرارية نار الحرب بين سلاطين الدولة الأيوبية، وذلك لأنهما يبحثان عن مصلحة خاصة خصوصًا وأنهما من عمال الموصل فوجود هذه المرأة التي رفضوها يعني الضرر بمصالحهم وبعملهم كما هو واضح.
لذلك لا نستغرب أبدًا عندما تظهر الحقائق وتبين لنا بأن ما يحصل الآن في البلدان العربية وخصوصًا العراق هو بسبب بعض الشخصيات التي تظاهرت بالرهبانية والقداسة لغرض التستر على دورها الرئيسي في إذكاء الفتن لغرض مصالح شخصية أو مصالح خارجية كما بينا في مطلع المقال، فكم سمعنا من عبارات مشابهة من حيث الجوهر لعبارة «مثل الموصل لا يترك لإمرأة» واحترافيّوا صناعة الحروب والتكفير يغرِّرون بأمراء الممالك…
احترافيّو صناعة الحروب والتكفير يغرِّرون بأمراء الممالك!!!