في المدى البعيد، يبقى كلّ الكلام الكبير الذي صدر عن الرئيس دونالد ترامب عن ايران كلاما في غياب أفعال على الأرض. يمكن قول ذلك على الرغم من انّ توصيفه للحال الايرانية في غاية الدقّة، خصوصا عندما يتحدث امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة عن دورها الإقليمي ومساهمتها في نشر الفوضى والعمل على زعزعة الاستقرار والدمار في المنطقة كلّها.
يظل السؤال في نهاية المطاف اين يمكن لادارة ترامب الحاق هزيمة حقيقية بايران بدل استخدامها بعبعا في عملية ابتزاز أميركية لدول المنطقة كما حصل ابان الحرب العراقية بين 1980 و 1988؟
لا شكّ انّ ترامب كان امام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في وضع هجومي اذ اكد انّه “لا يمكن ان نسمح للراعي الرئيسي للارهاب في العالم بان يمتلك اخط الاسلحة على كوكبنا”، أي السلاح النووي.
على الصعيد العملي، أدت العقوبات الاميركية التي استهدفت ايران والتي ستزداد بدءا من تشرين الثاني المقبل الى تحقيق جانب من المطلوب. افهمت الايرانيين انّ بلدهم ليس قوّة اقتصادية قادرة على الدخول في مواجهة مع اميركا. لعلّ اكثر ما يدلّ على ذلك انخفاض سعر العملة الايرانية الى رقم قياسي (170 الف ريال في مقابل دولار واحد) بعد اقلّ من أربعة وعشرين ساعة على القاء ترامب خطابه في الامم المتحدة.
كان كلام مستشار الامن القومي جون بولتون الذي ترافق مع خطاب ترامب اكثر قساوة بالنسبة الى ايران. لم يتردّد بولتون الذي لديه الهاجس الايراني في ذكر “المرشد” علي خامنئي بالاسم مع تركيز خاص على دور الجنرال قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري”. قال ان الولايات المتحدة “لن تسمح لخامنئي بتدمير دول الشرق الاوسط. نحن نستهدف كبار المسؤولين الايرانيين من بينهم قاسم سليماني وسنواجه كل الخطط الشريرة التي ينفّذها”.
لم يكن خطاب ترامب في الامم المتحدة إيرانيا فقط. راح الرئيس الاميركي يوزع الانتقادات يمينا ويسارا شاملا المانيا التي تعمل كلّ شيء، من وجهة نظره كي تكون اكثر اعتمادا على الغاز الروسي. هناك اميركا جديدة في عهد ترامب لا علاقة لها بالطريقة التي كانت تتعامل بها الإدارات السابقة مع حلفائها، بما في ذلك دول الاتحاد الاوروبي والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. ذهب ترامب الى حد توزيع شهادات حسن السلوك على مستحقيها من الحلفاء مشيرا على وجه الخصوص الى بولندا وسعيها، على العكس من المانيا، الى الّا تكون أسيرة الغاز الروسي.
وسط كلّ هذا الجانب الفولكلوري لخطاب الرئيس الاميركي، يخطئ ترامب وأركان ادارته اذا كانوا يعتقدون ان المواجهة مع ايران ستكون سهلة وسريعة. فايران في الاعوام الممتدة منذ 1979، صارت لاعبا إقليميا. استفادت من كلّ الأخطاء الاميركية، خصوصا من بقاء القضية الفلسطينية معلقة، فاذا بها تخطفها من العرب وتحولها الى تجارة رابحة لها. لذلك، لا يمكن الا تفهّم لماذا هذا الإصرار لدى الملك عبدالله الثاني على إبقاء خيار الدولة الفلسطينية المستقلة التي عاصمتها القدس الشرقية خيارا متاحا. صحيح ان ايران لا تستطيع ان تبني، لكنّ الصحيح أيضا انها موجودة في كلّ المنطقة وتتحرّش حتّى بدولة مسالمة مثل المغرب بهدف الاعتداء على سيادته الوطنية عبر تلك الأداة الجزائرية التي اسمها جبهة “بوليساريو”.
تكمن مشكلة ترامب في انه في حاجة الى انتصارات سريعة. لديه امتحان كبير، بل مصيري في غضون ستة أسابيع عندما تجري انتخابات فرعية لمجلسي الكونغرس. الكثير سيعتمد على نتائج تلك الانتخابات وعلى ما اذا كان الجمهوريون سيبقون مسيطرين على مجلسي الكونغرس، او على احدهما. لا يمكن الاستخفاف بان الرئيس الاميركي لا يزال يمتلك اوراقا عدة يمكن ان تساعده في بلوغ نهاية ولايته بسلام. في مقدّم هذه الاوراق وضع الاقتصاد الاميركي حيث البطالة للمرّة الاولى منذ فترة طويلة دون نسبة الثلاثة في المئة. من لا يجد عملا هذه الايّام في اميركا هو من لا يريد أصلا ان يعمل. الاهمّ من ذلك كلّه، ان الخطاب الذي يخرج به دونالد ترامب يستهوي الاميركي العادي، أي اميركا الريف والمدن الصغيرة التي اوصلته الى الرئاسة. ما لا يمكن تجاهله ان ترامب خسر كلّ المدن الكبرى امام هيلاري كلينتون في العام 2016، لكنّه فاز حيث يجب ان يفوز كي يصبح رئيسا للولايات المتحدة.
بالاستناد الى كلّ الخطب التي القاها ترامب منذ دخوله البيت الأبيض، تبدو المواجهة مع ايران آتية لا محال. لا يمكن بالطبع استبعاد حركة دراماتيكية من الرئيس الاميركي في مرحلة معيّنة، لكنّ تجارب الماضي القريب تظهر انّه ليس رئيسا اعتباطيا كما يقول الذين ينتقدونه.
هل هو مستعد لمعركة طويلة مع ايران؟ ثمّة جانبان للجواب عن هذا السؤال. الاوّل هل لدى اميركا الرغبة والإمكانات لقطع اذرع ايران الممتدة الى هذه الدولة العربية او تلك؟ امّا الجانب الآخر للجواب فهو مرتبط بالقدرة الاميركية على الضغط في الداخل الايراني.
هناك بكل وضوح تلازم بين ما يدور في محيط ايران وما يدور في الداخل. هناك دائما رغبة لدى النظام في نقل معاركه الى خارج أراضيه. سيكون العراق احدى ساحات المعركة مع الولايات المتحدة. سجلت ايران نقاطا عدة على الولايات المتحدة في العراق. أوصلت محمد الحلبوسي الى موقع رئيس مجلس النواب كاشفة انّها قادرة على الإمساك بالورقة السنّية أيضا في البلد. ترافق ذلك مع تدجينها مقتدى الصدر الذي صار صاحب اكبر كتلة في مجلس النواب الجديد وقطع الطريق على عودة حيدر العبادي الى موقع رئيس الوزراء.
في المقابل، لم تسجّل الولايات المتحدة أي نقطة على ايران في العراق باستثناء انّها عرقلت مساعيها لايصال احد رجالاتها الى موقع رئيس الوزراء. بكلام أوضح، صار هناك مجهود مشترك أميركي – إيراني يعطل تشكيل حكومة عراقية. ليس ما يدعو إيران، التي تعطّل أيضا تشكيل حكومة لبنانية، الشكوى من هذه الحال. كلّ ما يعطل عودة الحياة الى طبيعتها في بلد مثل العراق او لبنان لا يمكن الّا ان يكون موضع ترحيب لديها.
لا يمكن الاستخفاف بايران لا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان ولا في قدرتها على تحويل بيروت غرفة عمليات ثانية للحوثيين في اليمن بعدما تبيّن ان العلاقة بين هؤلاء و”حزب الله” علاقة اكثر من عضوية.
ستظهر الايّام والاسابيع المقبلة هل دونالد ترامب جدّي ام لا في الموضوع الايراني. هل يذهب مباشرة الى حيث يجب ان يذهب أي الى افهام اركان النظام الايراني ان معاركه معه لن تخاض في الساحات التي يختارونها للمنازلة. محور المعركة سؤال واحد وحيد هل اميركا قادرة على خنق الاقتصاد الايراني ام لا؟