يبقى الثامن والعشرين من شهر سبتمبر واحدة من المحطات المفصلية في تاريخ الأمة العربية الحديث، في مثل هذا التاريخ من عام 1970، رحل وبصورة مفاجئة الزعيم العربي الكبير جمال عبد الناصر عن عمر ناهز 52 عاما، بعد أن جهد وثابر خلال آخر سنة من حياته، بل ونجح في إيقاف الصدام الدموي المكلف بين الجيش الأردني والمنظمات الفدائية الفلسطينية التي كانت آنذاك تتخذ من الأردن قواعد انطلاق لممارسة العمل العسكري الفدائي ضد الأهداف «الإسرائيلية»، شكل رحيل جمال عبدالناصر صدمة قوية جدا في الأوساط الجماهيرية العربية من دول المغرب حتى الخليج العربي، فلم يكن مفاجئا ولا غريبا أن تشهد جميع العواصم العربية تقريبا جنائز غيابية حزنا على رحيل القائد الذي ترك بصمات لم تستطع أشد الانهيارات في الشارع العربي التأثير عليها أو محوها، في حين كانت جنازة الزعيم هي أكبر جنازة تشهدها مصر طوال تاريخها.
رحل عبدالناصر بعد مضي ثلاث سنوات على نكسة الخامس من يونيو عام 1967، وهو الحدث الذي شكل بالنسبة لجمال عبدالناصر صدمة قوية دفعته إلى طلب التنحي عن قيادة الدولة وتحمل مسؤولية الهزيمة العسكرية أمام «إسرائيل» في تلك الحرب، لم يكن قرار عبد الناصر هينا على قلوب الجماهير العربية التي رأت فيه ملهمها للتحرر من الإرث الاستعماري وآمنت بقيادة وبإخلاص هذا الزعيم العربي، إخلاصه لوطنه وأمته وقضية العرب الأولى قضية فلسطين، التي لم تغادر اهتماماته وقناعاته السياسية والقومية ورأى أن إعادة الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني تأتي في مقدمة الحقوق العربية الأخرى.
كان الرفض الشعبي لقرار التنحي عارما حيث نزلت الجماهير المصرية والعربية أيضا إلى الساحات والميادين تطلب من عبدالناصر العدول عن قرار التنحي وتطالب الزعيم بمواصلة قيادة المسيرة الوطنية والقومية، كانت الضغوطات الوطنية والقومية شديدة الوطأة على عبدالناصر إذ لم تمض أكثر من سنتين على هذه الانتكاسة الخطيرة حتى تفجرت أحداث سبتمبر في الأردن بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين وهي الأحداث التي أخذت من صحة عبد الناصر الكثير.
استطاع جمال عبدالناصر بما يتمتع به من كاريزما قيادية تجد مثيلها لدى القليل من قادة الدول، استطاع أن يغرس في نفوس وقلوب الجماهير المصرية والعربية روح الصمود والإيمان بالقدرة على تحقيق الآمال والتطلعات الوطنية الاستقلالية وعدم الاستسلام أمام أشد الأحداث وطأة وقوة، كما هو حال نكسة الخامس من يونيو وأحداث الأردن، كان الإصرار على مواجهة التحديات، هي واحدة من السمات التي تمتع بها الزعيم الراحل، فرغم الخسارة العسكرية الكبيرة التي تكبدتها القوات المسلحة المصرية ومعها السورية والأردنية في حرب ما اصطلح على تسميتها بحرب الأيام الستة التي تمكنت خلالها القوات «الإسرائيلية» من احتلال قطاع غزة وشبه جزيرة سيناء إلى جانب هضبة الجولان السورية وباقي الضفة الغربية.
رغم النكسة الثقيلة والخسائر البشرية والمادية الهائلة التي لحقت بالدول العربية إلا أن قيادة عبد الناصر تمكنت من النهوض والخروج النفسي من وطأتها وعملت على إعادة بناء القوات من جديد بفضل الدعم السخي من جانب الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي السابق ومن ثم الانتقال إلى حرب الاستنزاف التي ساهمت في رفع معنويات الجيش المصري والجماهير المصرية والعربية، وكانت بحق المقدمة العملية لحرب السادس من أكتوبر عام 1973 التي استطاع خلالها الجيش المصري العبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس وتمكن من تدمير خط «بارليف» الذي أقامه الجيش «الإسرائيلي» لإعاقة أي تقدم للقوات المصرية نحو شبه جزيرة سيناء من خلال عبور قناة السويس.
رغم مرور ما يقارب نصف قرن (ثمانية وأربعون عاما) على رحيل جمال عبد الناصر فإن ذكراه ما تزال حية لدى الأجيال التي عايشت تجربته الوطنية والقومية، وهي التجربة التي تركت بصمات ناصعة في تاريخ النضال الوطني والقومي العربي وانتقلت إلى الأجيال التي لم تعايش هذه التجربة وإنما اطلعت عليها من خلال مختلف المصادر، رغم كل المحاولات التي جرت لتشويه إنجازات الزعيم ومواقفه وإدارته لدفة الدولة المصرية ومعارك الاستقلال التي خاضتها الشعوب العربية.
يخطئ من يعتقد أن تجربة الزعيم الراحل كانت كلها ناجحة على مدى الثمانية عشر عاما التي قضاها في قيادة المسيرة الوطنية والقومية، لكن من الإجحاف وعدم الإنصاف اعتبار هذه التجربة خاطئة أو أنها لم تحقق أي إنجازات لصالح الأمة العربية والشعب المصري الشقيق، فقد تعرضت تجربة جمال عبد الناصر للكثير من التشويه، بل إن شخصية الزعيم نفسه لم تسلم من السهام السامة والملوثة، ولكن لم يكن غريبا ولا مستغربا أن يصدر ذلك من أطراف وجهات وقف عبد الناصر في وجه مشاريعها الاستعمارية وخططها التي كانت تستهدف أولا وقبل كل شيء عرقلة طموحات الشعوب العربية نحو نيل حريتها في استقلالية قراراتها وتحدي مسيرتها.
في لقاء أجرته محطة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) مع الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، من بين ما ذكره أن والدته زارته في السجن يوم وفاة عبدالناصر، وأثناء اللقاء سألته: هل سمعت بالخبر؟ قال أي خبر؟ قالت له: عبد الناصر مات، يضيف نجم أنه بمجرد أن سمع الخبر نكس رأسه متأثرا، فقالت له والدته: كيف تحزن على الرجل الذي أدخلك وأبقاك في السجن؟، يضيف نجم، قلت لها: «العمود تكسر يمه»، «عبدالناصر كان بالنسبة إلى وطننا هو العمود، رغم اختلافنا معه في مواقف واتفاقنا معه في أخرى»، المنصفون يقيمون تجربة عبد الناصر تقييما محايدا، بقدر ما يتحدثون عن إيجابياتها، فإنهم لا ينكرون ما بها من أخطاء أو نواقص.