ليس كل ما له بريق ذهبا؛ ولا كل مايحتفى به سينمائيا وينال قدر كبير من الدعاية فيلما يعتد به وينضم الى قائمة الأعمال التى تستحق الأشادة وهذا ينطبق على فيلم «مفك» إخراج بسام جرباوي؛ فللأسف أن المستوى الفنى للعمل أقل مما قدمه المخرج فى فيلمه السابق؛ الى جانب أن المحتوى تقليدى وليس به جديد يذكر؛ ومن خلال متابعتى لأعمال فلسطينية أخرى أجد أنه أقل كثيرا من المتوسط؛ ولايضيف لتلك النوعية من الأعمال شيئا؛ وخاصة أنه لا يستطيع أحد أنكار الدور الكبير الذى تلعبه السينما فى الأشارة الى القضية الفلسطينية؛ وثمة أعمال عديدة تم أنتاجها أثرت بشكل كبير على تغيير نمط التفكير تجاه تلك القضية ومنها فيلم «عمر» سنة 2013 من إخراج وتأليف هاني أبو أسعد والذى سبق وأن قدم أيضا «الجنة الآن» سنة 2005 عارضا قصة آخر 48 ساعة في حياة شابين فلسطينيين يستعدان للقيام بإحدى العمليات الاستشهادية في إسرائيل؛ وتم ترشيح الفيلم لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم بلغة أجنبية حينذاك؛ الى جانب فيلم «سجل اختفاء» أنتج عام 1996 من تأليف وإخراج إيليا سليمان عن عرب الداخل وكان بطولة إيليا سليمان وعدد من أقاربه ومعارفه وقد حاز على إعجاب النقاد عالميا ونال جائزة «لويجي دي لاورينتيس» في مهرجان فينيسيا في أول سنة لها والتي تمنح لأفضل فيلم يعد باكورة أعمال مخرجه؛ الى جانب الضجة التى حظى بها يدٌ الهية: Divine Intervetion الفيلم الفلسطيني المشبع بالإشارات والرموزواخراج أيضا إيليا سليمان، وحصل الفيلم علي جائزتين، جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي 2002 وجائزة (سكرين) العالمية في مهرجان السينما الأوروبية لفيلم غير أوروبي.
وفى هذا العام أحتفى مهرجان فينسيا بالفيلم الفلسطيني «مفك» ومنحه أحد جوائزه وهو ما رشحه للمشاركة أيضا في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة، وهو من إنتاج كل من فلسطين والولايات المتحدة، إخراج بسام جرباوي، الفيلم بطولة زياد باكري وآرين عمري، وجميل خوري؛ ولعل أهم مافى الفيلم هو الأداء المميز لبطله زياد باكرى؛ أم أطروحة جرباوي فتقليدية للغاية سبق تناولها فى أعمال عدة فالجميع يعلم أن السجن يدمر الأنسان جسمانيا وأنسانيا فقصة «مفك» المسنبطة من خيال المخرج، والتى استوحاها من مقابلاته مع سجناء، ومنها مقابلة مع سجين في أيامه الثلاثة الأولى بعد حصوله على حريته، حتى يفهم مشاكله الخاصة؛ ومع كل ماطعمها به من أنتقاضات للأعلام وحالة الأدعاء للتعامل مع قضايا الأسرى؛ من خلال المذيع إلا أن هذه المشاهد لم تخرج عن كونها مشهد كوميدى لايتعدى أثره اللحظى؛ وبالطبع عزف المخرج على استخدام الجرافيتي في الفيلم، وحمل شخصية فنان الجرافيتى أفكارا أداها وكأنه يحفظها عن ظهر قلب بلا روح أو هدف؛ المخرج ردد فى لقاءاته السابقة بعد عرض فيلمه إن أستعانته بالجرافيك لأن الاحتلال الإسرائيلي يبني جدران فيقومون هم بتلوينها وحدث هذا فى الأنتفاضة الأولى على جدران منزله.
العجيب أن الفيلم استغرق 8 سنوات، بحثا عن التمويل الذى حظى فى النهاية على الدعم من مؤسسة أفاق القطرية، الفيلم بالطبع يحاول مزج السياسة بالحياة الطبيعية من خلال سياق درامي قاتم مقبض، مليئة بصور التعبير عن الإحباطات ورثاء الذات الفلسطينية، وهي نغمة عزف عليها من قبل فى فيلمه عن السجن ولكن أعتقد أن العمل السابق أكثر وعيا من فيلم «مفك»؛ الى جانب أن المحتوى الفكرى للفيلم كان صادما فى بناء السيناريو والذى بدأ بمشهد للبطل هو وصديقه كطفلين يلعبا بالمفكات ومشرط ويخرح كل منهما العنف تجاه الأخر وهى أشارة مغزاها أن الفلسطينى بطبعه وفطرته أميل للعنف ربما بسبب الأحتلال؛ والفيلم من عام 1992، أي عندما كان بطل الفيلم زياد طفلا في التاسعة من عمره، يلعب الكرة مع أصحابه ومرتبط بصداقة خاصة مع رمزي الذى يصاب برصاص قناصة أسرائيلى بينما يحتسى البيرة هو الصبية الفلسطنيين ويتفوهون بالفاظ نابية؛ وفجأة يصبح رمزى شهيد يحتفى به بمشهد طويل وممل لتفاصيل جنازة لن تتعاطف معها ولن تصدقها لأن هؤلاء يكذبون ويحولون صبى يلهو الى شهيد؛ يتبع ذلك ربط فج لفشل زيارة وزير الخارجية الأميركي كولن باول، وقرار مفاجئ لهؤلاء الصبية للأنتقام لموت صديقهم؛ فينطلقون بالسيارة فى رعونة كبيرة ويصيبون رجل أعزل يصلح سيارته من منطلق أنه مستوطن أسرائيلى وهذا التصرف فى حد ذاته بعيد عن المثل والقيم الأنسانية؛ لتجئ الشرطة الأسرائيلية وتقبض على زياد بينما يهرب أصدقائه، في السجن يجد مجندة إسرائيلية تستجوبه بألفاظ مهينة لأمه يقابلها بوقاحة مماثلة منه؛ ولكنه يصاب بحالة صراخ وهياج عندما يعلم أن من أصابوه ولم يقتلوه لم يكن إسرائيليا بل هو عربي.
بعد 15 عاما في 2017 يخرج زياد من السجن محتفى به كبطل أسير رغم انه نفسه يعلم انه لم يكن بطلا وأن أسره ليس به بطولة؛ من هنا تبدأ سلسلة الإدعاءات والأغانى البطولية عن أسير بطل؛ يتبعها حالة معاناته الحقيقية الداخلية فهو يجد هوة بينه وبين العالم المحيط به مما يجعله يصاب بصداع مزمن وعدم القدرة على التبول؛ مع هذا الخط المخرج يطرح مجتمع فلسطينى يكذب ويتجمل فالأخت تفعل كل شئ ليتزوج من صديقتها حتى تتزوج هى الأخرى، والصديق الذى يحاول مساعدته فى أيجاد عمل يفعل ذلك ليزيل من عاتقه جميل عدم الأبلاغ عنه؛ والعمال الفلسطينيون كل مايهمهم لقمة العيش ومن أجلها قد يهينوك ويرفعون السلاح عليك؛ أما هو فلديه كذبه الخاص من انه من الممكن أن يشرب الخمر ولكن لايعلن هذا حفاظا على صورة الأسير؛ بل انه يتهم الفتاة الفليسطنية التى جاءت من أمريكا لصنع فيلم تسجيلي عن الحياة تحت الاحتلال؛ للفت أنظار العالم للتعاطف مع الشعب الفلسطيني، بانها تعيش في أميركا بينما قضى هو خمس عشرة سنة في السجن وان ماتفعله أدعاء؛ ويستمر الفيلم بلا تصاعد درامى يذكر وأرهصات حزينة وجمل حوارية بها الكثير من النمطية لاتضيف شيئا؛ لينتهى الفيلم بمشهد أكثر غرابة لركوب زياد سيارة كادت أن تصدمه لرعونته والهواجس التى يراه مع مواطن أسرائيلى يبدو مسالما معه وقادرا على أقامة حوار وفجأة يتحول زياد الى عدوانى فلايجد المستوطن سوى سلاحه بينما هو يرنو بعينيه الى وجود مفك؛ لينتهى الفيلم نهاية مفتوحة تتصورها كما تريد.