في خضمّ الجدل المستمر حول سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب ، الذي تغذّيه تغريداته، وتؤججه التغييرات المتلاحقة في طاقمه، يبحث الناس عن خيط يوصلهم إلى تحديد استراتيجية الإدارة، ورسم ملامح المبادئ التي تحكم تحركاتها.
فمن تقاليد السياسة الأميركية منذ فترة طويلة أن يكون لكل رئيس «مبدأ عام» يوجّه سياسته الخارجية. فمبدأ ترومان مثلاً كان «الاحتواء» الذي قصد به مواجهة النفوذ السوفياتي. ومبدأ كيندي كان «الرد المرن» باستخدام كل وسائل القوة المتاحة لمواجهة التهديدات والدفاع عن الحرية. أما كارتر فحدد مبدأ سياسته الخارجية في أن أميركا مستعدة لاستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في الخليج لا سيما بعد التدخل السوفياتي في أفغانستان. بعده جاء ريغان ليرفع شعار «مواجهة قوى الشر» ودعم كل من يواجهون الاتحاد السوفياتي، إذ كانت الحرب الباردة في أوجها.
جورج بوش الأب كان الرئيس الذي شهد عهده تفكيك الاتحاد السوفياتي، وكان مبدأ سياسته الخارجية مزيجاً من «الدبلوماسية والقوة». أما بيل كلينتون الذي جاء بعد انحسار الحرب الباردة فقد جعل مبدأين لسياسته الخارجية؛ الأول هو «التوسع الديمقراطي» على أساس أنه كلما توسعت حدود الديمقراطية كان ذلك في مصلحة أميركا، أما الثاني فهو «التدخل الإنساني» على غرار ما قام به في الصومال أو في حرب البوسنة.
فلسفة أوباما في سياسته الخارجية يمكن تلخيصها في جملته المتكررة لمسؤوليه وهي «لا ترتكب أعمالاً غبية». فهو لم يكن يريد التورط في حروب على غرار جورج بوش الابن الذي انتهج مبدأ «التدخل الوقائي» وبه دفع القوات الأميركية إلى أفغانستان ثم العراق، متأثراً بما واجهته الولايات المتحدة في هجمات سبتمبر (أيلول) 2001. الطريف أن أوباما الرافض لمبدأ بوش الابن كان يقول إنه معجب بواقعية بوش الأب الذي طرد القوات العراقية من الكويت لكنه لم يرد التقدم لاحتلال العراق، ونجح في تفكيك الاتحاد السوفياتي من دون حرب. لكن الواقعية تُرجمت إلى سلبية في سياسة أوباما لا سيما في تعامله مع الأزمة السورية.
ما الذي تغير في عهد ترمب؟
منذ وصوله إلى السلطة مرّت علاقات أميركا مع عدد من حلفائها الأساسيين بسلسلة من الأزمات بدءاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي، مروراً بكندا والمكسيك، وانتهاءً بكوريا الجنوبية واليابان. في كل هذه الأزمات كان ترمب ينطلق من مبدأ «التكلفة والعائد» ويرى أن أميركا تنفق أموالاً طائلة للدفاع عن الآخرين، وأنه حان الوقت لوقف هذا الاستغلال.
في كتابه «الخوف… ترمب في البيت الأبيض» أورد الصحافي الأميركي بوب وودورد تفاصيل اجتماعات بين الرئيس وكبار مسؤوليه تلقي الضوء على طريقة تفكيره في السياسة الخارجية. ويوضح وودورد نقلاً عن مصادره أنه لم تكن هناك فكرة تروق لترمب أكثر من الحصول على المال من الآخرين لدفع استحقاقات الأمن القومي التي التزمت بها الإدارات الأميركية السابقة، من حلف الناتو وأفغانستان والعراق إلى كوريا الجنوبية واليابان. ففي أحد اجتماعات مجلس الأمن القومي التي أوردها الكتاب أسهب الرئيس في الحديث عن كلفة السياسة الخارجية الأميركية، مشيراً إلى أن كلفة نشر قوات أميركية في كوريا الجنوبية على سبيل المثال هي مليارا دولار. واستشهد أيضاً بالوجود العسكري والمساعدات الخارجية في الشرق الأوسط قائلاً: «لقد أنفقنا 7 تريليونات دولار في الشرق الأوسط، بينما لا يمكنني توفير حتى تريليون دولار للبنية التحتية!»، بعدها عرّج على حلف شمال الأطلسي الذي قال إنه «يتلاعب بنا كمغفلين… الدفاع الجماعي مسرحية لمصّ دماء أميركا».
لهذا حدد ترمب لنفسه هدفاً أساسياً في سياسته الخارجية يتمثل في وقف ما يراه استغلالاً لأميركا. وألحق بذلك مبدأ ثانياً هو «الصفقة الجيدة»، كونه ينظر إلى السياسة الخارجية بعين رجل الأعمال الذي يريد أن يقتنص الفرص المتاحة أمامه، من دون أي مراعاة لاعتبارات الأمن القومي بعيدة المدى التي لم يبدِ رغبة في فهمها.
من ضمن الأمثلة التي أوردها وودورد في كتابه، ربما كانت أفغانستان نموذجاً جيداً يشرح توجه «الصفقة الجيدة»، إذ رأى ترمب في حصول أميركا على امتياز التنقيب عن الثروات المعدنية الأفغانية «صفقة جيدة» تعوّض عن الأموال الطائلة التي أنفقتها الولايات المتحدة جراء تدخلها العسكري هناك، وكان غاضباً كون «الولايات المتحدة تدفع مليارات الدولارات للحرب في أفغانستان، بينما الصين تسرق النحاس»، على حد تعبيره. لذلك ضغط على أعضاء مجلسه للأمن القومي لكي يعجّلوا بدخول شركات أميركية للتنقيب عن المعادن وجلب الثروات التي قال إن الحكومة الأفغانية عرضتها على أميركا مقابل بقاء قواتها هناك. لكن هذا لا يعني أنه يتحمس لبقاء القوات الأميركية طويلاً، فقد كان يقول لمساعديه «أفغانستان كارثة… لن تكون أبداً ديمقراطية ناجحة. يجب أن نخرج بالكامل»، على حد ما أورده وودورد.
هذه المبادئ وضعت ترمب في مواجهة مع كبار مسؤوليه الذين غادر عدد منهم مواقعهم في ظرف أشهر قليلة، لكن عقلية «رجل الأعمال» بقيت هي الطاغية في توجهات الإدارة، وليس هناك ما يشير إلى أنها قد تتغير في ظل بحث الرئيس دائماً عن «صفقة جيدة» في كل قرار.