نون والقلم

عريب الرنتاوي يكتب: من يملأ فراغات « اتفاق سوتشي »؟

ليس المعلن من اتفاق سوتشي (بوتين – أردوغان) سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد … ما كشف عنه الزعيمان في مؤتمرهما الصحفي المشترك، يترك فراغات كبيرة، لا بدّ لـ«التحليل السياسي» من العمل على ملئها، قبل أن تصبح بقية بنود الاتفاق، وربما أكثرها أهمية، متاحة للجمهور والرأي العام والأطراف ذات الصلة.

الحديث يجري عن منطقة عازلة بين النظام والمعارضة … حسناً، ربما كان الأدق القول إنها منطقة «آمنة» منزوعة من الأسلحة الثقيلة التي في حوزة المعارضة، ويحظر على الجيش السوري الاقتراب منها حتى إشعار آخر، المنطقة بعمق يتراوح ما بين 15-20 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، وتسهر على حمايتها وتسييجها، وحدات من الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية… هذا ترتيب يرضي تركيا وروسيا، فهل يرضي دمشق، التي تعهدت بوصول قواتها حتى آخر نقطة حدودية مع تركيا؟

الاتفاق أوكل لتركيا مهمة نزع السلاح الثقيل من فصائل المعارضة في المنطقة العازلة، وإخراج قوات النصرة منها، وخلال أسابيع ثلاثة تنتهي في العاشر من أكتوبر القادم … هل لدى أنقرة على فعل ذلك؟ … إن صح أن لها نفوذ حاسم على فصائل، فهل لها النفوذ ذاته؟ …. ما مصير النصرة في هذه المناطق، وخارجها، وهل أجرت تركيا ترتيبات مسبقة مع النصرة، هل حصل أردوغان على تعهدات من «أبو محمد الجولاني» للتعاون في إنجاز ترتيبات من هذا النوع؟

ماذا عن الوجود العسكري (الثقيل والخفيف) لفصائل المعارضة والنصرة على حد سواء، في المناطق الواقعة خارج هذا «الحزام» المحاذي لتركيا وعلى امتداد حدودها، هل سيكون مسموحاً للجيش السوري وحلفائه، العمل على استردادها بالقوة، هنا يجدر التذكير بأن النصرة هي القوة العسكرية الضاربة في إدلب وما تبقى من أرياف حماة وحلب واللاذقية الخارجة عن سيطرة الدولة السورية … هنا تجدر الإشارة أن النصرة وحلفائها (وللنصرة حلفاء أيضاً) تسطير على أكثر من نصف جغرافيا إدلب … هنا يُطرح السؤال عن مصائر الفصائل الجهادية الأكثر تشدداً من مثل: حراس الدين والمقاتلين الأجانب؟

تتفاوت التقديرات بشأن من هو الرابح ومن هو الخاسر بموجب اتفاق سوتشي … البعض يعتقد أن بوتين أعطى القليل لأردوغان ويستدل على ذلك من سعي الرئيس التركي للتقليل من مكانة إدلب بالنسبة لتركيا وقوله أن «وحدات الحماية الكردية أكثر أهمية لتركيا من إدلب» … البعض يقول أن بوتين نجح في سدّ ثغرة كان يمكن للولايات المتحدة أن تتسلل من خلالها لاستعادة تركيا وخلط الأوراق في سوريا، من بوابة إدلب … البعض يقول أن بوتين أمن محيط قاعدة حميم ودفع ثمناً لتركيا من جيب سوريا وليس من جيبه الخاص … البعض يقول أن أردوغان، وعلى الرغم من تهديداته القوية بالتدخل العسكري لمنع إعادة انتاج سيناريو درعا والغوطة في إدلب، كان يستعرض عضلاته فقط، وأن مصلحته ومصلحة بلاده تكمن في مكان آخر: منع المواجهة المكلفة والمؤلمة، وأن سوتشي حققت له ما أراد.

اتفاق سوتشي يبدو أنه جنب إدلب «المعركة الأكبر»، فهل سيحول دون اندلاع معارك أصغر خارج جغرافيا المنطقة العازلة، وضد فصائل لا سيطرة لتركيا عليها، بمن فيها النصرة، التي وإن حاولت «التساوق» مع جهود أنقرة وترتيباتها، إلا أن ما صدر عن قمة سوتشي، أكبر بكثير مما تستطيع النصرة أن تبتلعه وأن تهضمه.

لهذا نقول، إن «الفراغات» التي لم يملأها الزعيمان في مؤتمرهما الصحفي المشترك وفي اللقاء الموسع للوفدين، لا بد أنهما تناولاها بالبحث والتقليب من مختلف وجوهها في لقائهما الانفرادي، الذي من المؤكد أنه كان أكثر أهمية مما قيل أمام الوفود المرافقة وكاميرات الإعلام.

ثم ماذا عن اللقاءات الأمنية والعسكرية الثنائية التي جرت على هامش القمة وبموازاتها، وما الذي دفع الوزير سيرغي شويغو لأن يبدو متأكداً من أن دمشق ستوافق على الاتفاق؟ … وهل يعتقد الجنرال أنه جاء باتفاق مرضٍ لدمشق وحلفائها الآخرين، أم أنه يريد تكريس قاعدة «الأمر لي» في سوريا، أم أن الأمر عائد للسببين معاً؟

الحقيقة أن التقديرات بشأن حقيقة ما حصل في سوتشي، تزداد غموضاَ والتباساً، في ضوء موجة الترحيب التي صدرت بشأنه من أطراف متناقضة، وتقف في خنادق متقابلة: طهران رحبت، ودمشق امتنعت عن التعليق (حتى لحظة كتابة هذه السطور)، فيما أجنحة عديدة من المعارضة، من ضمنها إسلامية، رحبت واحتفت وثمنت «الإصرار الأسطوري» للطيب أردوغان على تجنيب إدلب «الكأس المرة» الذي كان ينتظرها.

وعلى الرغم من مناخات الارتياح التي أثارها الاتفاق، وتحديداً لجهة تجنيب مدنيي المنطقة مخاطر كارثة إنسانية محتملة، إلا أنه من السابق لأوانه إبداء الاطمئنان إلى أن سكة الحل السياسي لإدلب باتت ممهدة، أو القول إن الديبلوماسية انتصرت على قرع طبول حرب مدمرة في المحافظة الاستراتيجية …. وفي ظني أن تعقيدات المشهد الميداني، معطوفاً على عليها، ما يمكن تسميته بإحساس واشنطن (وأطراف أخرى) بأن ورقة إدلب قد سحبت منها، ربما يدفع على إبقاء «الحذر» سيد الموقف، قبل إطلاق العنان للتقديرات المتفائلة أو الساذجة.

نقلا عن صحيفة الدستور الأردنية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى