غسان شربل يكتب: من 11 سبتمبر إلى المرشد الروسي
الوقت لص سريع الفرار. تبتعد الأحداث ويغشاها الضباب. لكن العالم لا يستطيع اليوم إلا أن يتذكر هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 فقد هزت العلاقات الدولية واقتلعت أنظمة وتسببت في قتل كثيرين. إنه يوم استثنائي في حياة أميركا والعالم. ويوم باهظ في حياة الشرق الأوسط الذي أنجب «القاعدة» وبعدها «داعش».
في ذلك اليوم لم يخطر ببال صدام حسين أنه سينضم لاحقاً إلى لائحة الضحايا. وكان معمر القذافي واثقاً من غياب بصماته فقد أقلع عن لعبة التحرش بالإمبريالية الأميركية. وكانت طائرة الملك عبد الله الثاني فوق الأطلسي في الطريق إلى أميركا. وسرعان ما أدرك فور وصوله أن النهار سيشكل منعطفاً في علاقات أميركا بالعالم. ولم يصدق علي عبد الله صالح التقارير الأولية ثم أدرك هول ما حدث. وحين رأى الطائرة الأولى تصطدم بالبرج، ظن مسعود بارزاني أن التلفزيون يعرض فيلماً عادياً لكن الطائرة الثانية دفعته إلى المتابعة. كان اسم الرئيس الإيراني محمد خاتمي ولم يكن حديث «الهلال الإيراني» مطروحاً بعد. وكان على برويز مشرف أن يعد باكستان للتعامل مع الزلزال المقترب. وكان اسم الرئيس اللبناني إميل لحود. واسم رئيس الوزراء رفيق الحريري. وكان سمير جعجع مقيماً في سجنه وميشال عون في منفاه. وكان مضى عام على تولي بشار الأسد الرئاسة لم يزر خلاله إيران.
عاقبت الإمبراطورية الأميركية من استهدفوا رموز نجاحها وهيبتها ووسعت دائرة العقاب. جثة أسامة بن لادن ضائعة في المحيط. وأبو بكر البغدادي صنع الكارثة وتوارى بعدما خسر «دولته» ومعاقله. لكن الغريب أن فكرة استهداف مركز التجارة العالمي بطائرة مدنية لم تكن من صنع بن لادن.
تابع الإرهابي الفنزويلي الشهير كارلوس مجريات ذلك النهار من سجنه الفرنسي. «ولا يمكنني أن أصف ذلك الشعور الرائع بالارتياح». وفي رسالة بعث بها إلى من سجنه قال كارلوس: «في ربيع 1991 بعد الهجمات الجوية التي ألحقت دماراً هائلاً بالعراق حضرت اجتماعاً مثيراً لكوادر من منظمات معادية للإمبريالية من مختلف المنابت والآيديولوجيات تم فيه التوصل في شكل عفوي وغير رسمي إلى ضرورة الرد بتفجيرات في الولايات المتحدة. وطرح الشهيد مرتضى بوتو، الأمين العام لمنظمة «ذو الفقار» الباكستانية فكرة صدم المركز العالمي للتجارة في نيويورك بطائرة وعدم الاقتصار على الأهداف المرشحة بداهة في واشنطن».
كان الغرض من هجمات 11 سبتمبر إشعال خطوط التماس بين الغرب والعالم الإسلامي وإحداث شرخ غير مسبوق في العلاقات الأميركية – السعودية. كان الغرض أيضاً استدراج الجيش الأميركي إلى حرب في وعورة المسالك في أفغانستان. لقد راود بن لادن حلم رؤية الجيش الأميركي يخرج مثخناً من أفغانستان على غرار ما حصل مع «الجيش الأحمر» السوفياتي. لكن بن لادن أساء بالتأكيد تقدير قوة الآلة العسكرية الأميركية ومدى رفض العالم للإرهاب.
ومنذ يوم الهجمات إلى اليوم، عاش الشرق الأوسط سلسلة من الأعاصير مزقت خرائط ودولاً وهزت توازنات وغيرت ملامح. الحرب على «القاعدة». غزو العراق وسقوط الجدار الذي كان يمنع تدفق الجمر الإيراني في الإقليم. واندلاع «الربيع العربي» وإطلالة «داعش». والجرح السوري المفتوح الذي تضمن أيضاً مبارزات إقليمية ودولية فوق بحيرة من الدم.
لم تنجح طائرات بن لادن في قلب المشهد الدولي وتوازناته. ولم تتمكن سكاكين البغدادي من الاستقرار طويلاً لحز أعناق الخرائط. التغير الكبير سيأتي من مكان مختلف وقاموس آخر وعلى يد ضابط استخبارات شاب خرج مجروحاً من الركام السوفياتي.
أغلب الظن أن بوريس يلتسين لم يكن يعرف أنه يهدي الغرب حزاماً ناسفاً. في الثامن من سبتمبر 1999 وخلال محادثة هاتفية سأله الرئيس بيل كلينتون عن الشخص الذي سيفوز في الانتخابات الرئاسية في روسيا فأجاب يلتسين بأنه فلاديمير بوتين. وأضاف: «أخيراً وجدته. إنه الشخص المناسب. لقد درست سيرته الذاتية. إنه ديمقراطي ويفهم الغرب جيداً». وقال أيضاً: «لقد وجدته رجلاً قوياً وصلباً ظل على اطلاع ودراية جيدة بمختلف المواضيع تحت إدارته. وفي الوقت نفسه فإن نظرته شاملة وقوية، وهو شخصية اجتماعية للغاية. ويمكنه تأمين العلاقات الجيدة والتواصل مع مختلف الشخصيات من شركائه. وإنني متأكد أنك ستجده شريكاً مؤهلاً للغاية».
حين حدثت هجمات 11 سبتمبر كان الكرملين في عهدة بوتين الذي دخله في اليوم الأول من القرن الحالي. كان الرجل في مرحلة التقاط الأنفاس محاولاً رد رياح التفكك عن الاتحاد الروسي ورياح التشتت عن «الجيش الأحمر». وتوهم قادة الغرب أن الرئيس الروسي الجديد سيسلم بعالم القوة العظمى الوحيدة وسيكتفي بترميم البيت الروسي وإشهار حلم الانتماء إلى «البيت الأوروبي المشترك».
لم يغفر بوتين لأميركا أنها أسقطت الاتحاد السوفياتي ومن دون إطلاق رصاصة. وأنها تناست مطالب يلتسين بعدم استفزاز الروس بتحريك بيادق حلف الأطلسي إلى مقربة من حدودهم. وشعر الرجل الكثير الشكوك بأن الثورات الملونة جاءت من مطابخ الاستخبارات الأميركية. كان عليه أن ينجز أولاً مرحلة إخضاع الجنرالات ورجال الأعمال والإعلام كي لا يكون للخارج أوراق داخل داره. وهذا ما حصل. وحين استكمل استعداداته اغتنم الحريق السوري لإطلاق انقلاب كبير. ضم القرم، وذكر أوكرانيا بوطأة الجغرافيا. تدخل عسكرياً في سوريا، وطوّع الموقف التركي، وضبط الجموح الإيراني. حوّل نفسه حاجة لكل اللاعبين.
في قمة طهران الأخيرة مع إردوغان وروحاني بدا بوتين واثقاً من إلحاق إدلب بمصير مناطق «خفض التصعيد» السابقة. تجاوز سلوك الرئيس ليتصرف بعقلية المرشد. لم يشعر بضرورة مراعاة إردوغان أمام الميكروفونات.
تغير العالم. صارت هجمات 11 سبتمبر من الماضي البعيد. إننا نعيش اليوم في زمن المرشد الروسي.