لا مبالغة في القول إن قصور الحكم والسياسة في العالم تستيقظ على وقع قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. صرنا في أغلب الأيام، بل وأحياناً في أغلب ساعات اليوم الواحد، نقف مشدوهين أمام ما يصدر عن البيت الأبيض من مواقف تمس دولة أخرى، أو مجموعة دول، أو العالم بأسره. لا مبالغة أيضاً في القول إن الهم الأكبر لحكومات عدة أصبح يدور حول أساليب الرد على تغريدات الرئيس ترامب، وتصريحاته. حكومات تقرر التأقلم، وأخرى المواجهة، ونوع ثالث يختار الانتظار على أمل أن المؤسسات الأمريكية لن تتحمل طويلاً هذا الرجل، فهي لن تجدد له لولاية ثانية، أو إن نفد صبرها فقد تنهي عقد خدمته بالإقالة، أو المحاكمة، أو بكليهما معاً.
أما السؤال الذي يشغلنا، سواء كنا من الأكاديميين، أو من الإعلاميين، وخبراء العلاقات الدولية، فيدور بدوره حول أسباب هذه القوة والطلاقة والجرأة التي صارت تتسم بها السياسة الخارجية الأمريكية في عهد دونالد ترامب، والظروف التي دفعت مثل هذا الرجل للظهور في هذا الوقت وليس قبله، وليس بعده.
قضينا سنوات نقرأ ونكتب عن تطورات لا تبشر بخير. كانت أمريكا تنحدر، ولم تكن استعدت، وأعدّت العالم لعواقب هذا الانحدار في قوتها الكلية على أمن العالم، وسلامته، ورخائه. كانت السلطوية كنظام حكم تتمدد، وتتوسع، والديمقراطية بأطيافها الغربية تنحسر بما تضمنه هذا التمدد، وذاك الانحسار، من مغزى بالغ الأهمية، وهو أن أمريكا فقدت، أو في طريقها، لتفقد بريق وجاذبية أهم أرصدة قواها الناعمة، وأعني الحلم بالليبرالية.
ثم إننا كتبنا كثيراً، وقرأنا خلال سنوات سبقت ظهور دونالد ترامب على مسرح الرئاسة الأمريكية، عن تحديات هائلة تواجه، بل وتحاصر العديد من الاقتصادات الدولية الكبيرة، تصدرت قفزات التكنولوجيا الحديثة قائمة التحديات.
هذه التحديات وغيرها ترجمت نفسها في أزمة اقتصادية هزت بعض قواعد النظام الرأسمالي العالمي، وأثارت شهية المدافعين عن الرأسمالية، وخصومها، للتفكير في أساليب لتحسين الأداء منعاً لكارثة. ولم يكن خافياً في ذلك الحين أن العولمة قد خلفت آثاراً سلبية في العالم بأسره، وإن بدرجات غير متساوية.
حدث هذا بينما كانت تزحف على الغرب، وخارجه، تيارات تبنت الشعبوية أسلوباً أسهل في الحكم عن كل تلك الأساليب الديمقراطية والسلطوية التي جربتها دول عدة، وأثبتت أنها بطيئة، ومعقدة، ومكلفة. الشعبويون يطرحون طرقاً أقصر للوصول إلى الأهداف، يلقون بمسؤولية الحال المتردي على الطبقة السياسية التي هيمنت طويلاً على الأحزاب والهيئات التشريعية. يعتمدون على الفئات المتضررة من العولمة، وتدهور الحال الاقتصادية، والعاطلين، والكارهين للمهاجرين، والغاضبين من اضطهاد البيروقراطية وفساد الديمقراطية. يحلمون بدولية جديدة يواجهون بها دولية «الوضع القائم»، أي النظام العالمي الراهن.
في ذلك الوقت، أي في السنوات التي أعقبت سقوط نظام القطب الواحد في مستنقع الحملة الغبية على العراق، تعددت مؤشرات تؤكد تفاقم العجز في النفوذ الدولي للولايات المتحدة. رأينا، كما قرأنا، أفكاراً أمريكية عن الانسحاب من الشرق الأوسط، وفكّرنا بدورنا عن قلق «إسرائيل» لو انسحبت أمريكا من الشرق الأوسط، وتسارعت خطوات انحدارها قبل أن توجه ضرباتها الحاسمة نحو تصفية القضية الفلسطينية، وإسقاط النظام الحاكم في إيران.
كنا شهوداً على قلق عام في معظم العواصم العربية من وجود باراك أوباما على قمة السلطة في أمريكا، رئيساً عازماً على الاستمرار في تخفيض ميزانية التسلح، وعلى إغلاق قواعد عسكرية في الخارج، وعلى مواصلة دعم القطاعات المطالبة بالحريات واحترام الحقوق.
لم يكن لدينا شك في أنه في غياب وجود حزب حكومة قوي، كالحزب الشيوعي في العهد السوفييتي، أجاد بوتين استخدام الآلة الاستخباراتية الضخمة، إلى جانب الطاقة الكنسية الهائلة لتشكيل وعي قومي جديد بروسيا وطناً أم. كذلك لم يكن لدينا شك في أن قرب اكتمال مهمته في الداخل سوف يدفعه حتماً إلى تخطيط سياسة خارجية جاهزة لتنفيذ مهام تصادمية مع الغرب، في جبهتين على الأقل: أوروبا الغربية، والشرق الأوسط. أفلح بوتين إذ فرض روسيا فعلاً على الأجندة الأمريكية، دافعاً إدارة الرئيس أوباما إلى حث الدولة الأمريكية على إعادة النظر في سياستها تجاه روسيا. ولعلها كانت الشيء الوحيد الذي استعاره راضياً الرئيس ترامب من كل أعمال ونوايا الرئيس أوباما.
لم يهدد بوتين مكان أمريكا على قمة النظام العالمي. ولم يطرح روسيا بديلاً لأمريكا، مكتفياً بعمل دؤوب لإضعاف هيمنتها في أوروبا، وخلخلة نظامها الديمقراطي، أحد الأذرع الرئيسية في قوتها الدولية. الصين، ربما من دون نية مؤكدة، كانت في صعودها الأسطوري تهدد موقع أمريكا في القمة.
حاولت في السطور السابقة عرض صورة مبسطة لتطورات وأوضاع سبقت بوجودها ظهور المرشح دونالد ترامب على الساحة السياسية، وهي على أعتاب حملة لانتخاب رئيس جديد لأمريكا. هدفي كان، ولا يزال، المساهمة في النقاش الدائر حول حجم كل من الحقيقة والخيال فيما استقر من اقتناعات عن شخصية هذا الرجل، وأهدافه، وسياساته، وأساليب عمله. أنا عند اعتقادي أن دونالد ترامب كان، ولا يزال، أحد النتائج المنطقية لتطورات وأحداث «ثورية الجوهر» غيرت مجرى السياسة الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. ترامب نتيجة وليس سبباً أصيلاً، وراء ما نشهده. أضاف بشخصيته، وتاريخه، وولاءاته، وانحيازاته، وتجاوزاته، ولكنه لم يأت بها. ترامب وحقبته، وما حققه، وما أفسده، وخربه، لم يأت من فراغ.