منحت القداسةُ الكلمات سلطات تنعكس في حلل متنوّعة في القراءة والكتابة والتفسير والإبداع، والكشف ورفع الأغطية وفضح الأسرار؛ الأمر الذي شغل المفسّرين الأوائل للأساطير التقليدية في الفلسفة والدين.
لن يكون الرئيس ترامب، أول أو آخر الحكام الذين تؤرّقهم الصحافة في عروشهم، ولو أنّه هاجم «جوجل» و«تويتر» التي يعشقها واتهمهما بالتحيز ضدّه.
فقد عانى الصحفيون عبر التاريخ، باعتبارهم مظاهر انحدارات وقهر لسلطة الحكام أو تجليات لها. صحيح أن الكلمة تتراجع وتنحدر في عصر الشاشات أمام تقنيات الصورة، لكنها كما يظهر «ما زالت تفعل الكثير في حكم الدولة أكثر من البيت الأبيض، حيث يحكم الرئيس أربع سنوات، بينما تحكم الصحافة إلى الأبد»، وفقاً لما نشره رافيرتي كين في 1975 في كتابه: «هذا ما يقولونه عن الصحافة».
أُدرج هذا الاقتباس هنا، لارتباطه بأمريكا؛ الدولة الأكثر تحقيقاً وانتشاراً لتقنيات العولمة في العالم اليوم، والأكثر ترسيخاً للغتها الإنجليزية في تقدّمها واستعمالاتها والأكثر مرارة من الصحافة.
أما التقرير بأن الصحافة قادرة على الحكم إلى الأبد، فمسألة تستدرج بعض الإيضاحات في انتقال الصحافة من الاحتقار إلى الانتصار:
أ بقيت الصحافة طويلاً سلطة هزيلة مقابل سلطات أباطرة الغرب. دلّ جذرها اللاتيني Press على جمهور جاهل يتجمّع بسرعة وعفوية، لسماع خطيب أو بهلواني، ومنه مصطلح Presse بالفرنسية من فعل Presser؛ أي ضغط وأسرع ومرادفها Dépécher، وDépèche؛ أي الخبر السريع. بقيت الصحافة محتقرة لا قيمة لها ولا صيت. نجدها في كتابات روسّو «منشوراً دورياً غير جدير بالاحترام، ولا نفع منه وقراءته مهملة ومحتقرة من المتعلّمين، وهو لا يستخدم إلا ليقدّر من النساء والبلهاء الباطلين، الذين لا لغة لهم ولا ثقافة».
ورأى ديدرو في الصحافة «أوراقاً هي عجينة الجاهلين، ومنبع سلطات أولئك الذين يرسلون الكلام والأحكام من دون قراءة، وهي آفة وعدوّ أولئك الذين يجهدون في تحصيل الثقافة. إنّهم لم ينتجوا يوماً سطراً جيداً لفكر جيّد، كما لم يحولوا دون إنتاج كاتب رديء لمؤلَّف رديء»،
فولتير اعتبر الصحافة «قصّ التفاهات». كانت الصحافة تثير غضب نابليون حيال أيّ نقد بسيط. أمر وزيره جوزف فوشيه: «اقمع الصحف أكثر واجعلها تنشر مقالات جيّدة، وإلاّ فإنني سأوقفها كلَّها ولن أترك سوى واحدة. انتهى زمن الثورة ولم يبقَ في فرنسا إلاّ حزب واحد؛ إذ لا شيء يؤلمني ويثير خوفي أكثر مما تنشره الصحف، فتعيق فيه مصالحنا».
وليس أبلغ مما نقله مترنيخ، سفير النمسا في فرنسا عن لسان نابليون الذي قرّبه منه وكلّفه بالتفاوض بشأن زواجه من ماري لويز؛ إذ غدا ما نشره مضرب الأمثال في السلطات التي تتمتع بها الصحافة: «إنّ مقالاً صحفياً يساوي جيشاً من 300 ألف رجل، وهؤلاء لا يراقبون الداخل ولا يخيفون الخارج أفضل من دزينتين من حثالات الصحفيين». كان نابليون يرى في صحيفته Le Moniteur الناطقة باسمه «روح الحكومة وسلطتها وقوتها، ووسيلتها إلى الرأي العام في الداخل والخارج.. إنّها أمر اليوم بالنسبة لانتصار الحكومة».
ب بالمقابل، وبدافع من المنافسة، وفي ظل مناخ الحرية النسبي، انخرطت الصحافة البريطانية في النضال السياسي وشهدت تنوعاً وغنى في المضمون، ساندها في ذلك الاهتمام الذي حظيت به من القراء في متابعة المناظرات البرلمانية، ومستجدات السياسة بعد قرن ونصف من النضال والصراع بين الصحافة والسلطات.
لقد لعب الصحفي البريطاني إدمون بورك (1729-1797)، بمقالاته وخطبه دوراً في مناهضة وليم بيت، وزير الحرب، رئيس الوزارة البريطانية (1766-1768)، وضدّ ورن هاستنجز Warren Hastings (1732-1818)؛ الإداري البريطاني حاكم الهند عام 1773، واتّهمه بالرشوة والاختلاسات، وكان عدواً شرساً لثورة نابليون الفرنسية، ما دفعه في العام 1787، إلى إطلاق السلطة الرابعة كتسمية للصحافة في كتابه بعنوان: «تأمّلات في الثورة في فرنسا».
لقد طغت صفة «الجلالة» على الصحافة بالإنجليزية بمعنى القوة والاحترام والإجلال.
لقد واكبت الصحافة صورة بريطانيا التي لم تكن تغرب عنها الشمس، فجاءت كلمة news بالإنجليزية مثلاً، تختصر بريطانيا بقوة انتشارها في الجهات الأربع: North الشمال East الشرق Ouest الغرب South الجنوب.
ج اتسعت شهوة البشر نحو الحرية، وحملت المادة 11 من إعلان حقوق الإنسان الخاص بالثورة الفرنسية، ومنه استوحي إعلان حقوق الإنسان العالمي، وأقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 /12/ 1948، دلالة كبرى في العلاقة بين الحكام والصحافة، حيث تجلت الحرية في تبادل الآراء والأفكار حقاً إنسانياً، يسمح لأيّ كان بالقول والنشر والطبع بحرية يكفلها القانون.
ما مستقبل ترامب مع مليارات الصحفيين؟ ننتظر ونترقّب.