ليس هناك أدنى شك في نوايا مصر الصادقة تجاه المحافظة على المصالح الوطنية الفلسطينية وتأمينها في ظل الأوضاع الصعبة التي تمر بها القضية الفلسطينية وحالة التصدع الذي يعيشه البيت الداخلي الفلسطيني بسبب الخلافات الحادة والعميقة بين كل من حركتي «فتح» و«حماس»، والذي تصاعد بعد انقلاب حركة «حماس» على السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة واستيلائها على السلطة هناك، فدخول مصر بقوة على خط ما اصطلح على تسميتها بــ«صفقة» الهدنة بين حركة «حماس» و«إسرائيل» على حدود قطاع غزة مع فلسطين المحتلة، لا يمكن أن يكون على حساب تبني مصر لموضوع المصالحة الفلسطينية ودعمها لهذا الهدف الوطني المنشود. من هنا فإن الدعم المصري لمشروع الهدنة المقترحة لم ولن يكون على حساب موقف مصر المبدئي من دعم السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس (أبو مازن).
فموقف مصر من دعم مسألة الهدنة المقترحة يختلف اختلافا جذريا عن نوايا وأهداف «إسرائيل» من وراء موافقتها على الدخول في مفاوضات غير مباشرة مع حركة «حماس» للوصول إلى تفاهمات بشأن هذه الهدنة. «إسرائيل» وبسبب إجراءاتها العقابية بحق أهالي قطاع غزة هي المسؤولة عن الأوضاع الإنسانية والأمنية الصعبة التي يعيشها القطاع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الموافقة «الإسرائيلية» على المساعي المصرية للوصول إلى هذه الهدنة بعيدا عن إشراك السلطة الوطنية الفلسطينية في الأمر إنما هدفه هو تعميق الانشقاق الفلسطيني ودق أسفين بين طرفي الخلاف، أي حركتي «فتح» و«حماس».
تحفظات السلطة الوطنية الفلسطينية على موضوع الهدنة المقترحة، ليس مرده عدم اهتمام السلطة واكتراثها بالأوضاع الإنسانية للشعب الفلسطيني في القطاع، كما تحاول «حماس» تسويق ذلك، وإنما لأن السلطة الوطنية الفلسطينية تخشى من النوايا الخبيثة للكيان الصهيوني من وراء موافقته على نقاش موضوع الهدنة من دون إشراك السلطة الفلسطينية، وكلنا يتذكر مواقف قادة هذا الكيان من مسألة المصالحة الفلسطينية وتهديدهم بوقف أي مفاوضات مع السلطة الوطنية الفلسطينية إذا ما توصلت إلى اتفاق مع «حماس» يقود إلى مشاركة الحركة في السلطة الفلسطينية.
ليست هناك أي مصلحة لمصر في شق وإضعاف الموقف الفلسطيني، ذلك أن تاريخ مصر كان دائما إلى جانب نضال الشعب العربي الفلسطيني من أجل حقوقه المشروعة، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التجارب والمواقف التاريخية كلها تثبت أن مصر حريصة على لملمة وإصلاح البيت الفلسطيني من الداخل، وعملت بجد وعزيمة من أجل إتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية، واحتضنت من أجل ذلك أكثر من لقاء جمع بين الفصائل الفلسطينية المختلفة، بما فيها تلك التي تختلف مع مصر سياسيا فيما يتعلق بقضايا كثيرة، وطنية وإقليمية، ومنها حركة «حماس» التي وقفت مع حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر.
فمن مصلحة جميع الأطراف الفلسطينية عدم التشكيك في مواقف مصر من القضية الفلسطينية ومن النوايا المصرية تجاه أي تحركات تستهدف تهدئة الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي قطاع غزة بالدرجة الأولى، حيث يعاني أبناء القطاع حصارا إجراميا «إسرائيليا» متواصلا على مدى أكثر من عشر سنوات، فهؤلاء بحاجة ماسة إلى إجراءات تخفف المعاناة الإنسانية التي يعيشونها بعيدا عن أي مزايدات سياسية من هذا الطرف أو ذاك، وعدم استغلال الوضع الإنساني لسكان القطاع من أجل تحقيق مكاسب وأهداف سياسية حزبية ضيقة.
فالملاحظات التي أبدتها السلطة الوطنية الفلسطينية حيال موضوع «الهدنة» المقترحة بين «حماس» والكيان الصهيوني، هي ملاحظات مشروعة وصحيحة أيضا، فهي تنطلق أولا من حرص السلطة وعزمها على عدم تذويب المطالب السياسية المشروعة للشعب الفلسطيني في ماعون الاحتياجات الإنسانية لأهالي قطاع غزة، وثانيا إدراك السلطة ووعيها للنوايا الخبيثة لقادة الكيان الصهيوني وإصرارهم على تعميق الانشقاق الفلسطيني عبر سياسة «فرق تسد»، وإثارة المزيد من الشكوك والتوجس بين الفصائل الفلسطينية، وخاصة بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة «حماس».
ورغم الأهمية القصوى لتحقيق انفراج إنساني للأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة، وتحميل الكيان الصهيوني مسؤولية المعاناة الإنسانية التي تحل بأهالي القطاع، فإن الجهود لتحقيق ذلك يجب ألا تكون على حساب جهود إصلاح البيت الفلسطيني من الداخل وتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية التي تعتبر العمود الفقري لأي تحرك فلسطيني يستهدف استعادة الحقوق التاريخية المشروعة وفي مقدمتها حق العودة وإقامة الدولة الوطنية المستقلة وعاصمتها مدينة القدس المحتلة.
فهناك محاولات مستميتة من جانب الكيان الصهيوني والدول الداعمة له لتحويل الأنظار والرأي العام عن الجوهر الحقيقي للقضية الفلسطينية وتصويرها على أنها قضية إنسانية يتطلب حلها مبادرات في الإطار الإغاثي الإنساني، وهذا هو واحد من الأسباب التي وعت لها السلطة الوطنية الفلسطينية وجعلتها في توجس من مبادرة الهدنة وعدم انتباه قادة حركة «حماس» إلى هذه المسألة المهمة، فالأوضاع الإنسانية الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وخاصة في قطاع غزة المحاصر، إنما هي واحدة من نتائج غياب الحل الجذري للقضية الفلسطينية، فبدون إيجاد حلّ فإن المأساة الإنسانية للشعب الفلسطيني لن تنتهي.