نون والقلم

جميل مطر يكتب: العالم عند السفح أم الهاوية؟

أثار اهتمامي ما جاء في مقال رأي ورد ضمن مجموعة مقالات عن الصين بعثت بها من هناك صديقة عزيزة. جاءت في المقال نصيحة إلى الرئيس شي بالعودة سريعاً إلى أسلوب التدرج الذي أشار إلى انتهاجه الرئيس الأسبق للصين دينج شاو بينج. هناك بطبيعة الحال من يريد أن يحمل الصين مسؤولية الغليان عند مستوى العلاقات بين الدول الكبرى.

أخبار ذات صلة

يقولون إن العالم لم يبدأ بالتحول الجذري من حال إلى حال أخرى إلا عندما ظهر واضحاً للطبقة السياسية في الولايات المتحدة أن الصين عجلت بخطوات صعودها نحو القمة. هناك أيضاً من يسعى للبحث عن مخرج من الورطة الراهنة في السياسة الدولية حيث الولايات المتحدة تجرب إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بينما الصين والاتحاد الروسي يتجاوزان الحدود في سعيهما لإقامة نظام عالمي جديد لا يكون لأمريكا فيه حق الهيمنة.

أحترم صاحب هذا الرأي. أحترم حسن نيته، وأتفق معه في أن العالم يتوجه بسرعة رهيبة نحو صدام حتمي، ما لم تهدأ مختلف الأطراف، وتهدئ من سرعتها، سواء الصين في سرعة صعودها نحو القمة، أو أمريكا في سرعة انفعالها. وفي ظني الشخصي أنها لن تهدأ على النحو الذي نريد. لن تهدأ لأن ما يحدث في أمريكا لا يمكن وقفه إلا بتحولات أساسية وخطيرة في المجتمع الأمريكي، ولعل بعض ما يفعله الرئيس ترامب يدخل ضمن هذه التحولات.

بالنسبة للطرف الثاني في هذه المعادلة يبدو الحال أكثر وضوحاً، وأقرب إلى الحسم. ببساطة شديدة يمكن تبني الرأي القائل إن الرئيس شي لن يستجيب بسرعة للنصيحة فيبطئ المسيرة، ليس لأنه عاجز عن إبطاء آلة الإنتاج الهائلة فقط، لكن أيضاً لأنه صار متأكداً من أنه لو أبطأ فسوف تنقض على الصين كل القوى الغربية المعادية تاريخياً للصين، تهد ما بني خلال أكثر من نصف قرن. ثم إنه يعرف أن الإنجازات فاقت كل ما كان متصوراً، أو مخططا له، وبالتأكيد لا يريد أن يسجل له في تاريخ الصين أنه الإمبراطور الذي أحبط أحلامها.

سئلت هل لو كانت الولايات المتحدة أقدمت مبكراً على فرض زيادات في التعريفة الجمركية على وارداتها من الصين هل كانت تفلح في وقف، أو إبطاء صعود هذا العملاق الآسيوي؟ أظن أنها ما كانت لتقدم على خطوة من هذا النوع في وقت كانت تقود فيه العالم باسم حرية التجارة. أظن أيضاً أن صعود الصين إلى حد القدرة على تحمل مسؤوليات دولية كان هدفاً أمريكياً. أظن كذلك أن اتساع رقعة التجارة بين الصين والولايات المتحدة كاد يمثل مصلحة حيوية لأمريكا، لأنه ساهم في إدماج فقراء أمريكا وقطاعات واسعة متضررة من الطبقة الوسطى في سوق المنتجات الاستهلاكية رخيصة الثمن، بعد أن توقفت عن إنتاجها الشركات الأمريكية، خاصة بعد أن هاجر كثير منها للاستثمار خارج أمريكا.

جمع الرئيس شي في شخصيته عناصر لم تتوافر جميعها في أي من الرؤساء السابقين. كان في معظم حياته قريباً من بؤر أحداث كبرى من خلال مواقعه في الحزب فتأثر بها من دون أن يتلون بألوانها. تأثر مقتنعاً بمبدأ مركزية الحكم في الصين، وهو المبدأ الذي جعله لا يقدم على الترشح للولاية الثانية إلا وقد ضرب كل القوى من ذوات النوازع الإقليمية أو المعتمدة على نفوذ محلي. تاريخ الصين في هذا الشأن معلم أعظم. إذ ما إن قويت زعامات إقليمية إلا ودب الفساد في أرجاء الإمبراطورية الشاسعة، ومن الفساد حتماً إلى الانفراط. تأثر أيضاً بأحداث الثورة الثقافية وأهدافها. ها هو الآن وعلى مرأى من المخضرمين في الصين ومراقبيها في الخارج، يلجأ إلى أسلوب دعوة المثقفين والمفكرين إلى الدخول في مناقشات حرة تماماً حول قضايا المجتمع ومشكلاته الأساسية. هدفه كما كان هدف الرئيس ماو خلال حملة «دع الزهور تتفتح في الخمسينات»، و«الثورة الثقافية» في الستينات، مثلث الأبعاد. بعده الأول تنفيث البخار المتراكم نتيجة الكبت والقمع، بعده الثاني الاستفادة من أفكار ومبادرات الخبراء والمتخصصين بعيداً عن قيود البيروقراطية وخوف الصحفيين من عواقب النشر غير المنضبط، الثالث هو حشد وتشكيل قاعدة شعبية، وبالأخص حزبية تتفرد لطاعة الرئيس وابتكار مبادرات إعلامية وتطوير العمل السياسي بما يتناسب مع ظروف جديدة تماماً. تأثر الرئيس شي أيضاً بمظاهر القيادة الدولية. وقدم نموذجاً للتوسع الاستراتيجي لم تقدمه دولة غربية من قبل.

تأثر الرئيس شي بتدرجية الرئيس دينج شاو بينج، مقتنعاً بأن تسخين أو تسريع احتمالات الصدام مع أمريكا أساساً، والغرب أيضاً، كفيل بأن يعطل- إن لم يوقف- تقدم الصين وصعودها نحو القمة. عرف أيضاً من تجربة عهده الأول أن التدرجية نفسها قد تصبح عقبة، خصوصاً بعد أن اكتشفت أمريكا والعالم كله أن الصين تجاوزت بتدرجها حدود الانتقال المسموح به، وانطلقت نحو القمة، ربما بأسرع مما كان عليه الأمل، وبقوة لم تكن في الحسبان.

صعب أن نتصور أن يبقى الحال في القمة الدولية على هذا النحو، فالصين ما زالت في صعودها الصاروخي، وترامب يؤسس لنظام سياسي جديد في الولايات المتحدة، وبوتين يستعيد لروسيا مكانتها معتمداً على حاجة كل من الصين وأمريكا إليه طرفاً موازناً.

نقلا عن صحيفة الخليج

 

 

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى