ليست الأزمة التركية أزمة أميركية- تركية. هذه الأزمة ظهرت قبل أن تسوء العلاقات بين واشنطن وانقرة في ضوء رفض السلطات التركية اطلاق القس الاميركي اندرو برانسون المحتجز منذ العام 2016. تعتبر السلطات التركية القس برانسون جاسوسا. قد يكون ذلك صحيحا، كما قد لا يكون كذلك. لكن اعتقال القس الذي ينتمي الى الكنيسة الانجيلية يمسّ الرئيس دونالد ترامب في الصميم، كذلك نائب الرئيس مايك بنس المعروف بتدينه. هل هناك وعي لهذا الواقع الذي يمسّ الكتلة الانتخابية التي تؤيّد ترامب في وقت تستعد الولايات المتحدة لانتخابات مهمة ستؤثر على تركيبة الكونغرس بمجلسيه في نوفمبر المقبل.
هناك جهل تركي كبير بالداخل الاميركي. يمكن ان يكون ذلك عائدا الى حد كبير الى الحاجة لدى الرئيس رجب طيب اردوغان الى الهرب الى الخارج واثارة الغرائز الوطنية لتغطية ما يمكن وصفه بأزمة تركية عميقة. قد تكون الحاجة الى التغطية على الازمة الداخلية لتركيا في أساس العجز عن تقدير الوضع الدولي والسعي الى فهم ما هي إدارة دونالد ترامب وكيف تعمل هذه الإدارة وما طبيعة ردود فعلها على تصرّفات معيّنة. بلغ الجهل بالسلطات التركية حدّ عدم استيعابها مدى عداء إدارة ترامب للنظام في ايران ولكلّ من يدعمه. لم تجد انقرة عيبا في استفزاز واشنطن بعد بدء تطبيقها عقوبات جديدة في حق ايران…
لماذا الازمة التركية داخلية اوّلا؟ هذا عائد أولا الى ان هبوط سعر الليرة التركية بدأ قبل ان تكون هناك مشاكل مع الولايات المتحدة. بدأ الهبوط في سعر العملة التركية قبل سنوات عدّة، لكن التطور المهم كان بعد الاستفتاء الذي اجري في ابريل من العام 2017 الذي حوّل النظام من نظام برلماني الى نظام رئاسي على قياس رجب طيب اردوغان.
تبيّن بعد نتائج الاستفتاء ان هناك رغبة لدى اردوغان في إقامة نظام ديكتاتوري يكون فيه هو الرجل المسيطر على كلّ السلطات والمتحكم بها في الوقت ذاته، بما في ذلك السلطة القضائية. التقط كبار رجال الاعمال الاتراك من أصحاب المليارات الرسالة. رهن هؤلاء كل ممتلكاتهم وموجوداتهم لدى المصارف التركية وحصلوا في المقابل على كميات ضخمة من الاموال، بالعملات الأجنبية، وظفوها في الخارج. لم تعترض المصارف التركية على ذلك، نظرا الى انّها حصلت على ضمانات في مقابل الاموال التي اقرضتها لكبار رجال الاعمال. كانت العملة التركية هي الخاسر الأكبر بعدما قرر كبار رجال الاعمال والصناعيين الهرب من الاستثمار في الداخل.
فهمت السوق المالية الرسالة. لم تعد هناك ثقة لدى كبار رجال الاعمال الاتراك بتركيا. ما بدأ بتدهور بطيء للعملة بعدما تبين ان اردوغان يعمل من اجل ان يكون ديكتاتورا آخر، خصوصا بعد اعتماده القمع في مواجهة المحاولة الانقلابية صيف العام 2016، تحول الى تدهور سريع. جعل ذلك هذه العملة تفقد نسبة 14 في المئة من قيمتها في احد الايام من شهر أغسطس الجاري.
لم تكن الاجراءات الاميركية ضد تركيا ذات قيمة تذكر في تأثيرها على الاقتصاد. ما له قيمة معيّنة هو الجهل التركي باميركا في عهد دونالد ترامب. ماذا ينفع تهديد الرئيس الاميركي الحالي بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي الذي تعتبر تركيا ركنا من اركانه. مثل هذا الحلف مهمّ لتركيا وللجيش التركي الذي يقف من دون شك حائرا امام رجل مثل رجب طيب اردوغان أراد ان تكون المؤسسة العسكرية في جيبه. وحدها الايّام ستكشف هل نجح في ذلك ام لا في وقت لم تعد الإدارة الاميركية تعير ايّ اهمّية لحلف الاطلسي؟
ليست الازمة التركية ازمة مالية فقط. ما نشهده حاليا يشكل تعبيرا عن فشل على كلّ صعيد في مواجهة هبوط سعر الليرة في غياب رؤية واضحة لما يفترض ان يكون عليه الاقتصاد، خصوصا بعدما جعل اردوغان من صهره برات البيرق وزيرا للمال. لا يتمتع الرجل، أي البيرق، بخبرة كبيرة في الشؤون المالية وهناك شكوى من تدخله في أمور يفترض في وزير المال البقاء بعيدا عنها مثل سياسة البنك المركزي وصلاحيات حاكمه.
ليست الازمة الداخلية التركية سوى تتويج لسلسلة من الازمات رافقت صعود نجم رجب طيب اردوغان، رئيس الوزراء بين 2003 و 2014 ثمّ رئيس الجمهورية بعد 2014 وصولا الى قيام نظام رئاسي لا وجود فيه لرئيس الوزراء. في طريقه الى احتكار السلطة، تخلص اردوغان من كلّ كان يستطيع ان يكون منافسا له او شريكا في القرار، ولو شكليا. تخلص من عبدالله غل واحمد داود اوغلو وكانا من اركان حزبه. تخلص بعد ذلك من كبار ضباط الجيش الذين كانت لهم كلمة الفصل في أمور معيّنة تتعلق بالموقع السياسي لتركيا في المنطقة. لعلّ اخطر ما فعله يتمثل في إهانة هؤلاء الضباط بشكل علني بعد المحاولة الانقلابية صيف 2016 واصراره على التدخل في شؤون القضاء والذهاب بعيدا في عدائه لفتح الله غولن الموجود في الولايات المتحدة واتهامه بانهّ وراء المحاولة الانقلابية.
نسي اردوغان في طريقه الى القمة واحتكار السلطة ان في أساس صعوده النجاح الاقتصادي الذي حققته تركيا منذ توليه موقع رئيس الوزراء باسم حزب العدالة والتنمية. ما تفتقده تركيا حاليا هو الأساس الذي قام عليه حكم الرجل الذي قرر تغيير طبيعة النظام في تركيا وجعله يدور حول شخصه. تنسف الازمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا النظام الاردوغاني القائم.
إضافة الى ذلك كلّه، لم ينجح رجب طيب اردوغان في ايّ مبادرة خارج تركيا. بقي كلّ كلامه عن سورية منذ اندلاع الثورة الشعبية فيها مجرّد كلام، علما انّه لا يمكن تجاهل التسهيلات التي قدمتها تركيا للاجئين السوريين. تراجع اردوغان بعد اوّل مواجهة مع فلاديمير بوتين. تراجع قبل ذلك امام إسرائيل عندما حاول كسر الحصار على غزّة. كان في كلّ وقت على علاقة بايران. لم يتردّد في إيواء أسوأ أنواع الإسلاميين مظهرا في كلّ وقت انه ينتمي فعليا الى تنظيم الاخوان المسلمين. لم يستطع اتخاذ موقف معقول في أي قضيّة مطروحة على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك المقاطعة الخليجية لقطر. كان في استطاعته لعب دور إيجابي بدل ان يكون طرفا في قضيّة تعني المملكة العربية السعودية.
لم يعد من رهان لرجب طيب اردوغان في الوقت الراهن سوى على أوروبا التي لدى مصارفها مصلحة في تفادي انهيار الاقتصاد التركي الذي اعتمد في الماضي على استثمارات كبيرة لهذه المصارف في تركيا. هل الرهان على أوروبا كاف؟ الجواب لا، خصوصا اذا لم يقدم رجب طيب اردوغان على مراجعة للذات تبدأ بالاعتراف بان ازمته داخلية قبل ان تكون مع اميركا وان التصعيد مع إدارة ترامب لا يطعم الاتراك خبزا.
المؤسف انّه لا يبدو من نوع الرجال الذي يستطيع الاقدام على مثل هذه الخطوات الشجاعة. هذا يعني بكل بساطة ان تركيا مقبلة على مزيد من الازمات التي يصعب التكهن بتأثيرها على مستقبل النظام الاردوغاني المرتبط برجل واحد ليس الّا.
نقلا عن صحيفة الراي الكويتية