تضيف فنزويلاّ الشافيزيّة فصلاً بعد فصل إلى كتاب المآسي الإنسانيّة المفتوح. الآلاف يتدفّقون جنوباً إلى كولومبيا، ومنها إلى إكوادور، ومن بعدها بيرو وتشيلي، أو إلى البرازيل في الجنوب الشرقيّ. بات عددهم في كولومبيا يفوق المليون نسمة. قبل أيّام اعتدى برازيليّون على مخيّم حدوديّ للنازحين الفنزويلّـيّين ثمّ أرسلت البرازيل قوّات عسكريّة. إكوادور، أيضاً، فرضت قيوداً مشدّدة على دخولهم، لكنّ فنزويلّـيّين كثراً يتحدّونها ويخاطرون بالعبور.
هذا البلد النفطيّ الغنيّ الذي حوّله نظامه إلى بلد مجاعات، حيث نسبة التضخّم الأعلى في العالم، يقتصر طرح مشكلته على نتيجتها الإنسانيّة. الذين يتحدّثون عن السبب والعلاج السياسيّين هم، لا بدّ، عملاء للولايات المتّحدة!
في قطاع غزّة، يزدهر الكلام عن «صفقة سياسيّة» بين إسرائيل و «حركة حماس» ترعاها مصر. هذه الصفقة التي يقال إنّ تنفيذها سيبدأ في أيّ وقت، تتناول فكّ الحصار عن القطاع وتأمين وصول المساعدات الإنسانيّة إليه وإنشاء، أو تحديث البنية التحتيّة فيه. أمّا سلطة «حماس» وسلوك إسرائيل فيتمّ التعامل معهما كتحصيل حاصل.
في سوريّة، بُحّت الأصوات وهي تؤكّد أنّ إزاحة بشّار الأسد شرط شارط لوقف المأساة الإنسانيّة وامتدادها في النزوح السكّانيّ. الدعوات إلى تدخّل إنسانيّ، ولو على شكل تلويح بالطيران في الأعالي، وجدت أصواتاً كثيرة تخوّنها وتخوّن أصحابها. الرائج اليوم هو التداول في عودة النازحين السوريّين وفي إعادة الإعمار، فيما غدا الشكّ في سلطة الأسد واستمرارها يرقى إلى هرطقة ما بعدها هرطقة.
الهاربون عبر البحر من بلدان منهارة، والذين يموتون منهم وهم يعبرون، لا يزال طرح قضيّتهم يفتقر إلى تصوّرات أساسيّة أعرض وأشدّ جذريّة.
«الإنسانيّ من دون سياسة» هو من سمات عصرنا في ما يبدو، خصوصاً في ظلّ ميل جارف إلى الانكفاء عن كلّ «تدخّل في شؤون الغير»، والاكتفاء بضمان «الاستقرار» الذي لا يزعج أحداً ولا يتهدّد أحداً بالإرهاب أو بفوائض النازحين. ألم تروا ما فعلت الثورات في البلدان العربيّة، كما يقال بإفراط؟ في الاتّجاه ذاته، يصبّ استيلاء الشعبويّات القوميّة على صناعة القرار في بلدان قويّة ومؤثّرة.
لقد رحل عن عالمنا قبل أيّام ثلاثة كوفي أنان، الأمين العامّ للأمم المتّحدة بين 1997 و2006. أنان، الغانيّ والأفريقيّ، بدا مفجوعاً بأنّ العالم لم يفعل شيئاً لوقف مجزرة 1994 في رواندا التي أودت بمليون ضحيّة من التوتسيّ. وهو نفسه انتُقد كثيراً بوصفه وكيلاً للأمين العامّ لعمليّات حفظ السلام في الأمم المتّحدة. في الحالات جميعاً، دافع أنان، بعد تسلّمه الأمانة العامّة، عن التدخّل في كوسوفو، وهو ما حصل فعلاً على يد حلف الناتو في 1999. إلا أنّ الفيتّو الروسيّ في مجلس الأمن كان يشلّ دور الأمم المتّحدة ويحوّل موقف الأمين العامّ إلى مجرّد خطاب توفيقيّ يصفه البعض بالمداهنة والرياء. هذا التناقض كان يشير إلى أنّ نقص الإنسانيّ إنّما يتأدّى عن نقص السياسيّ. أللهمّ إلا إذا فكرنا بطريقة سيّئة الظنّ وقلنا إنّ هناك دائماً فائضاً سياسيّاً، لا نقصاً، غير أنّه فائض يحالف النقص الإنسانيّ ويرعاه.
إنّ سوء الظنّ، في أحيان كثيرة، من حسن الفطن.