الأزمة الاقتصادية التركية الحالية، كشفت للعالم أجمع حقائق عديدة كانت مخبأة بإحكام بالقفل والمفتاح، لكنها ظهرت وانكشفت رغماً عمن كان يُخبئها، لأن نتائجها جاءت كالطوفان العظيم الذي لا ينفع معه تكتم حكومي ولا تكتم إعلامي.
فالإعلام التركي المحسوب على الرئيس أردوغان، وكذلك الإعلام العربي المناصر له، دأب منذ سنوات وهو يردد بأن أردوغان رفع اقتصاد تركيا، وأن الاقتصاد التركي أصبح قوياً عالمياً وفي مصاف اقتصاد الدول الصناعية الكبرى، وأن الاستثمار داخل تركيا هو الاستثمار الناجح على كل الأصعدة، حتى جاءت هذه الأزمة التركية واكتشف بأن هذا كله لم يكن إلا كلام في كلام.
المراقب للسياسة التركية، سواء السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية في عهد أردوغان، يجد أنها سياسة صعبة، قليلة المرونة وضعيفة الديبلوماسية، وذات مفاجآت متتالية، تميل للصِدام لا التهدئة، ولعل اسلوب السِياسة التركية هو أبرز أسباب تدهوّرها الاقتصادي، فخذ على سبيل المثال، بعد المحاولة الانقلابية التركية المزعومة في 15 يوليو 2016م، أصبح أردوغان يحكم تركيا حُكماً شبه مطلق، وبعد أن تم اعتقال وسجن الكثير من القُضاة والضُباط أصحاب الرتب الكبيرة في مختلف المؤسسات العسكرية التركية، أخذ أردوغان بتعيين الموالين له في تلك المناصب الحساسة، وغيرها مثل البنك المركزي التركي، الأمر الذي خلق الربكة والخوف على رأس المال في قلوب التجار الأتراك والمستثمرين الأجانب، ما دفع فئة منهم إلى أن ينظروا أن تركيا لم تعد مناسبة لهم اقتصادياً سواء كشركات كبيرة أو أفراد، ما أدى لسحب أموالهم والهروب بها إلى الخارج.
كذلك تعيين صِهر أردوغان (براءت ألبيرق) المولود في 1 يناير عام 1978م، وزيراً للمالية التركية منذ عام 2015م، من دون أن يكون ذا خبرة متينة وكافية في شغل هذا المنصب الحساس لدولة بحجم تركيا، تريد المنافسة الاقتصادية مع بقية الدول، يعتبر من أسباب تدهوّر الاقتصاد التركي. كذلك التساهل الكبير الذي اقترفته تركيا في الاقتراض المالي من العديد من الدول دون تأنٍ ودون حذر، أوقعها في مأزق اقتصادي خطير تعيشه الآن. كذلك الذي حدث في يوم الأربعاء 23 مايو 2018م من قيام البنك المركزي التركي بمواجهة أردوغان وتحديه والعمل بخلاف ما يريده، حيث رفع البنك المركزي التركي سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس، متخذاً إجراء سريعاً لإنعاش الليرة واستعادة ثقة المستثمرين التي هزتها تدخلات من الرئيس أردوغان، الذي كان يريد خفض تكاليف الاقتراض لزيادة الائتمان والنمو الاقتصادي كما يظن، الأمر الذي يكشف عن حجم التدخلات الخطرة التي يقترفها الرئيس التركي في حق اقتصاد بلاده. كذلك العلاقة المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، لا شك أنها أثرت سلباً بشكل ملاحظ سياسياً واقتصادياً على تركيا، وذلك بسبب قضية القِس الأميركي برانسون، الذي وضعته تركيا رهن الإقامة الجبرية حالياً، بعد احتجازه 21 شهرا منذ عام 2016م، في أحد السجون بأنقرة، بتهمة الانتماء لحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن، اللذين تعتبرهما تركيا منظمات إرهابية، الأمر الذي رفضته الإدارة التركية، وطالبت من تركيا أن تخلي سبيل القِس فوراً، لكن تركيا لم تتعامل مع المطالبات الأميركية المتعلقة بالقِس برانسون بمنظار المصلحة الأهم وبالشكل الديبلوماسي المطلوب وبالتهدئة، بل أخذت تُصّعد الموقف وتزيد من سخونته عبر تمسكها بموقفها حِيال القِس الأميركي، ما دفع أميركا أن تفرض عقوبات ضد وزير العدل التركي عبدالحميد غُل، ووزير الأمن الداخلي سليمان صويلو، وهي مُصادرة أي ممتلكات أو مصالح عقارية لكلا الوزيرين، وتجميد الأصول المالية التابعة لهما في الولايات المتحدة. وكذلك على صعيد الخلافات في العلاقات التركية – الأميركية، ومما أثر سلباً أيضاً على الاقتصاد التركي، هو الموقف التركي المعارض لقرار العقوبات الأميركية ضد إيران، على الرغم من استجابة معظم الدول التي تتعاون مع إيران تجارياً، لذلك القرار الأميركي، حيث صرّح وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي فاتح دونماز، يوم الأربعاء 8/8/2018م، «أن تجارة الطاقة القائمة بين بلاده وإيران ستستمر وفق الاتفاقات المبرمة بين الجانبين».
وهذا التحدي التركي لقرارات دولة عُظمى مثل الولايات المتحدة تمتلك نصف اقتصاد العالم وتمتلك سطوة عسكرية لا مثيل لها، ولديها تحالفات مع دولة مهمة، هذا كله سيزيد من مأزق تركيا الاقتصادي. وتجاه هذه الأزمة بين البلدين، أكدت الولايات المتحدة في 15/8/2018م، بأنها لن تلغي الرسوم التي فرضتها على واردات الصلب والألومنيوم التركية، حتى لو أطلقت أنقرة سراح القس الأميركي المحتجز لديها، وحذرتها من اختبار عزم الرئيس الأميركي في الأزمة بين البلدين.
ولقد حاولت تركيا أن تجد الدعم المالي من الكويت لكنها لم تفلح في ذلك، حيث وصل وزير ماليتها براءت ألبيرق في يوم الأحد المنصرم 12/8/2018م، لتلقي الدعم في اجتماعه مع وزير المالية الكويتي. وبعد هذا الاجتماع نفت وزارة المالية صحة ما تم تداوله حول ضخ الكويت مبلغ 500 مليون دينار لدعم العملة التركية، كما أُشيع بعد الاجتماع الذي كان بين الوزيرين.
في نهاية المقال أظن بالنهاية أن تركيا سترضخ لجميع مطالبات الإدارة الأميركية، لأن أردوغان دائماً يتشدد في بدايات الأمور ثم يتنازل، والذي يراجع سياسة الرئيس التركي سيتأكد من هذا.