نون والقلم

حسين الرواشدة يكتب: «ألغام» قد تنفجر في وجوهنا

في العادة، تتعرض المجتمعات – مهما اختلفت تجاربها – لموجة من الهجرات القصرية او الذاتية، ثمة من يهاجر الى الماضي للبحث عن ملاذات آمنة، وعن هوية يخشى عليها او يفتقدها، وثمة من يهاجر الى الحاضر والمستقبل، بالاستناد الى التاريخ او بدونه، لكن ما حدث بالنسبة لمجتمعاتنا كان شيئا آخر، فقد ضاعت بوصلة الهجرة – خاصة للشباب – بين ماضٍ مختلف عليه، وتارخ مليء بالامجاد الحقيقية، والاخرى المزورة، وبين حاضر مزدحم بالازمات والجراحات والالآم، ومستقبل مجهول وملغوم ومخيف ايضا.

أخبار ذات صلة

اسوأ ما فعلناه تجاه هؤلاء الذين نلومهم ونحاسبهم اليوم على غلوهم وتطرفهم وعقوقهم الوطني والديني هو فرض العزلة عليهم مكانيا وزمانيا، سياسيا و دينيا و ثقافيا، ليس فقط من خلال مناهج لا تعليمية تقصدت التعامل معهم كأجهزة للحفظ والتلقين، وكمستقبلين لاحكام ومقولات جاهزة ومملة وغير مقنعة، وانما ايضا من خلال خطاب ديني تحريضي، يعتمد على اثارة العواطف والحماسة و يستثمر في تدين مغشوش يمجد الذات ويخاصم الآخر، وخطاب سياسي مستهلك طارد للكفاءات ومنزوع من العدالة والحرية، وسياسات عامة استهدفت اعاقة المجتمعات عن النمو والحركة و التفاعل، وولدت لدى الناس حالة من اليأس والعجز والتنابذ الاجتماعي و الثقافي.

حين فشلنا في منح هؤلاء الشباب فرصة للاختيار تمردوا على قيم المجتمع وانتزعوا القهر الذي تعاملنا معهم على مسطرته ليمارسوه ضد انفسهم وضد مجتمعاتهم، وحين اغلقنا امامهم ابواب الجهاد من اجل الحياة ابتدعوا على هواهم انماطا مغلوطة للجهاد من اجل الموت, وحين صادرنا منهم الامل استثمروا في اليأس والاحباط، وحين اندست امامهم الابواب المشروعة للعمل والمشاركة و الاندماج مع محيطهم قفزوا من النوافذ غير المشروعة وكسروها ايضا.

على مدى العقود الماضية ظلت اسئلة الشباب عن الدين الصحيح والتعليم النافع والعدالة والحرية و الكرامة, معلقة من دون اجابات، وكان بوسعنا ان نبدأ بوضع خرائط سياسية ودينية وثقافية لارشاد هؤلاء الشباب والرد على اسئلتهم الحائرة، لكننا للاسف تعمدنا الصمت او «التطنيش» احيانا، كما تعمدنا احيانا اخرى تقديم اجابات مشوهة، مما دفعهم الى البحث عن اجابات تخيلوا انها تناسب وعيهم وطموحاتهم، او الى الانزواء بعيدا عن المشهد للاحتجاج عليه.. وعلينا ايضا.

في هذه الجولة التاريخية التي نمر بها، اعتقد ان بعض شبابنا قرروا بان موسم الهجرة للتطرف هو الطريق المتاح وربما الافضل، ليس لانهم تصوروا بانه طريق النجاة، وانما للاحتجاج والنكاية والانتقام، صحيح ان ثمة من هاجر للغرب بحثا عن فرصة تعليم او عمل او حياة لائقة، ومن هاجر الى العالم الافتراضي بحثا عن فسحة اوسع للتفكير والتعبير والانفكاك من العزلة، لكن الصحيح ايضا ان مثل هذه الهجرات على اختلافها صبت في اتجاه موقف سلبي وانسحابي، وفرّغت مجتمعاتنا من طاقاتها، وافرزت حالة من الفراغ والتصحر والتطرف، والاهم انها لم تجد على الطرف الاخر المعني بسلامة المجتمع من ينتبه الى هذا الخطر ويبادر الى مواجهته بما يلزم من حلول ومعالجات.

كان يمكن – بالطبع- ان نتحرك باتجاه التوافق على استراتيجية وطنية جادة لمواجهة موسم هذه الهجرات الطاردة للحياة والاستقامة، والجاذبة للانتحار الذاتي، لكننا للاسف جازفنا بتصميم خرائط وهمية لتقسيم الادوار بمعزل عن اصل المشكلة وجذورها ومشاركة المجتمع فيها، وقدمنا النتائج على المقدمات والحلول الجاهزة على الاسباب الدافعة، وبالتالي بدل ان تكون مثل هذه الخرائط في خدمة المجتمع تحولت الى عبء عليه.

لا بد ان نتحرك في الاتجاه الصحيح للرد على اسئلة الشباب ومطالبهم، ومعرفة ما يدور داخلهم، ليس فقط لان ظاهرة التطرف والارهاب تداهمنا، وانما لاننا ايضا في هذه الجولة من التاريخ معرضون لما هو اسوأ من التطرف، حيث الهجرة لليأس والاحباط والقهر بمثابة «ألغام» قد تنفجر في وجوهنا بأية لحظة.

نقلا عن صحيفة الدستور الأردنية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى