موضوع الفرق والعلاقة بين تعبيري «السلطة» و«القوة» يهمنا ، نحن العرب، لأنه يجثم في قلب الحياة السياسية العربية.
كأحد المداخل لفحص الموضوع، يجدر بنا أن نسترجع مقولة شهيرة لماركوس سيسرو، رجل الدولة والخطيب الجماهيري المفوّه، والفيلسوف الذي عاش في روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية، منذ واحد وعشرين قرناً من الزمن. يقول سيسرو واصفاً الحياة السياسية في روما، بدقة، وفهم عميق : «إن القوة هي عند الشعب، أما السلطة فهي في مجلس الشيوخ».
يقول المؤرخون إن سيسرو قد عنى بذلك القول أن مواطني روما كانوا يملكون من القوة ما يستطيعون بها التأثير في قرارات مجلس الشيوخ، لكن امتلاك السلطة لاتخاذ القرارات وتنفيذها كان في يد أعضاء ذلك المجلس. كان مواطنو روما يؤثرون من خلال حقهم في تكوين تجمعات تُتداول فيها وتناقش بحرية شتّى المواضيع العامة، قبل أن ترفع وتصل إلى مسامع مجلس الشيوخ.
نحن أمام ممارسة للقوة من قبل الشعب، وما يماثل في أيامنا مؤسسات مجتمع مدني، تقابلها ممارسة للسلطة من قبل مؤسسة حكم مهيمنة على الحياة العامة. هذا تلخيص لواقع الحياة السياسة في روما ما قبل الدكتاتوريات الإمبراطورية المتسلطة المستبدة المتعجرفة . أما بعد قيام تلك الدكتاتوريات الإمبراطورية فقد أصبحت القوة والسلطة في يد الإمبراطور، وبدأ العدّ التنازلي لتفسّخ الحياة السياسية ودمار الإمبراطورية.
هل هناك درس وعبرة في واقع مجتمعي تواجد منذ أكثر من ألفي سنة؟ الجواب هو «نعم»، فوجود القوة المؤثرة، المستقلة والمنفصلة عن سلطة الحكم، في شكل «تربيونات»، أي مجالس شعبية، كان كفيلاً بأن يوجه مسار السلطة من خلال اقتراح القوانين، وأن يحدّ من انفلاتها في ممارسة التسلّط من خلال إعلان المجالس في مناقشات علنية عن رفضها لبعض قرارات مجلس الشيوخ.
كانت «التربيونات» قوة شعبية حقيقية، تمثل مصالح الإنسان العادي. ونوع علاقة قوة المجتمع تلك ومستوى تفاعلها مع السلطة الحاكمة، هما اللذان أوجدا التوازن في روما، وفي ممتلكاتها الإمبراطورية الواسعة.
يدور في الذهُن سؤال محيّر: لماذا استطاع قادة روما في زمن ما قبل التاريخ الميلادي الانتباه إلى أن السلطة المطلقة ستقود إلى المفاسد والظلم، ما لم توازنها قوة المجتمع ، بينما فشل قادة الخلافات الإسلامية المتعاقبة، بعد عدة قرون من ذلك التاريخ الروماني، في الانتباه إلى تلك البديهة السياسية وتطبيقها في الواقع العربي الإسلامي؟
لماذا لم يطوّر مثلاً نظام «أهل الحلّ والعقد» ليصبح مشابهاً لنظام «التربيونات» الروماني، وليمنع حدوث فظائع الظلم والفساد الذي عاشته الخلافات العربية الإسلامية قرناً بعد قرن؟
هل إن السبب كان في إقحام الدين في السياسة وصراعات الحكم؟ أليس ما أوردته بعض الكتب عن أن معاوية قال للناس إنه إن حكم بالعدل فلأن مشيئة الله قدّرت ذلك، وأنه إن حكم بالظلم فلأن مشيئة الّله أيضاً هي التي قدّرت ذلك يتضمن إقحاما للدين في السياسة؟
وأيضا، ألم يضع الخليفة العباسي المنصور شعار الحكم القائل إن الخليفة هو ظلّ الله على الأرض؟ قروناً قبل أن يتبني ذلك الشعار ملوك أوروبا في العصر الوسيط؟
كل ذلك حدث، بالرغم من أن الحكم كان يدار باسم الدين وتحت ظلال القرآن الكريم الذي كانت رسالته للبشرية قائمة على التمجيد المذهل للحقّ والقسط والميزان والعدالة والتراحم.
هذه مقارنة تحتاج إلى تفسير وفهم، ليس لأنها ظاهرة لافتة في تاريخنا، بل لأننا نعيش تلك الظاهرة في حاضرنا السياسي، نعيشها بأقبح صورها.
نظام روما الذي لا يمكن تسميته بالديمقراطي في حينه، تطوّر مع الوقت وقاد إلى ديمقراطية الغرب الحالية بالتناغم مع أنظمة أخرى بالطبع. أما نظام الخلافة الإسلامية القائم على سلطة هائلة في يد الحكم، وضعف شديد في قوة المجتمع، فإنه قادنا إلى مانحن عليه من محن وإحن سياسية. لقد سمح ذلك النظام لقوى الخارج ولبلادات الداخل أن تفعلا في أمتنا ما يهدد وجودها.