كأنما جمهور عموم الناس الجالسين على مقاعد المتفرجين، سواء في بريطانيا أو خارجها، بحاجة إلى مثل آخر يؤكد كم هو صاعق، أحياناً، نفاق السياسيين. المثال المضروب، أخيراً، في هذا السياق، حضر من خلال ما أثير من جدل الأسبوع الماضي حول ملاحظتين ضمّنهما بوريس جونسون مقالة نشرتها له صحيفة «ديلي تلغراف» – عدد السادس من هذا الشهر – بشأن النساء المسلمات اللواتي يتبرقعن، أو يرتدين النقاب، في بريطانيا. أين النفاق السياسي هنا؟ إنه في سرٍ مفضوح خلاصته أن معظم مُطالبي جونسون بالاعتذار عن كلمات جارحة – وهي كذلك بالفعل – وصف بها المنقبات، يرددون الصفات نفسها، تقريباً، أو كلمات مشابهة لها تدور في دائرة المضمون ذاته. بوضوح مختصر، من الجائز القول إن أغلب البريطانيين، وليس ساستهم فقط، غير مرتاحين لتزايد مظاهر تشي، وفق مخاوفهم، بأن «أسلمة» المجتمع البريطاني بلغت مرحلة تجاوزت حاجز الرجوع عنه، وبين تلك المظاهر يقفز منظر المرأة المنقبة تسير في الشارع، أو جالسة خلف مقود سيارة، أو في عربة قطار أو حافلة، ليتقدم قائمة المخاوف. خطأ بوريس جونسون، الذي أراد بعض خصومه السياسيين وضعه بمرتبة الخطيئة، أنه، ببساطة، قال علناً ما يقال همساً في المجالس، فهل أخطأ فعلاً؟
نعم، وكلا. حقاً، أخطأ جونسون في اختيار كلمات جارحة لم يكن مضطراً لها، خصوصاً إذ هو يتعامل مع موضوع دقيق وحساس كما هو شأن لباس المرأة المسلمة. ثم إن خطأ المُشاكس جونسون يتضاعف إذا وُضِع في الاعتبار أن الرجل صحافي وكاتب ومؤرخ، قبل أن يخوض معترك العمل السياسي، بدءاً بعضوية مجلس العموم، مروراً بموقع عمدة عاصمة كبرى بحجم لندن، وصولاً إلى وزير خارجية حكومة تيريزا ماي، حتى ظُهر التاسع من الشهر الماضي. أليس الجدير بمن امتلك ناصية القلم ووُهِب مقدرة الكتابة، أن يُقدِّر مسؤولية الكلمة فيزنها بميزان الذهب، كما قيل منذ أزمان بعيدة، قبل أن ينطقها أو ينشرها على الملأ؟ بلى، ولو أن بوريس جونسون فعل ذلك، لما استخدم كلمات تُعد من تعابير الشوارع في وصف أمر يهم المجتمع ككل، فبدا في هكذا تصرف كمن أضاع المضمون المهم لرسالة أراد توصيلها للرأي العام. كذلك، أخطأ السيد جونسون لجهة أنه، سواء أراد أو لم يُرد، وضع ثقله المُعتبر إلى جانب تيار عنصري يسعى إلى توسيع دائرة «الإسلاموفوبيا» وتعميق مخاوف أهل بريطانيا الأصليين إزاء المهاجرين عموماً، والمسلمين خصوصاً. في هذا السياق، لفتني ما ذكرته سارة خان في صحيفة «صاندي ميرور» الأحد الماضي، لجهة أن 0.01 في المائة فقط من نساء بريطانيا المسلمات، يرتدين النقاب، فهل أن هكذا نسبة تستحق أن يعطيها سياسي مثل جونسون اهتمامه؟
نعم، ربما أخطأ جونسون في اختيار الكلمات، وفي إعطاء أهمية لنقاب نسبة ضئيلة بين نساء بريطانيا المسلمات، لكن الرجل لم يرتكب أي «جُرم»، وفق ما أوحت به أقوال كثيرين، خصوصاً بين معارضيه السياسيين، في الرد عليه. بل على عكس ما تعمّد ممارسو النفاق السياسي ترويجه ضد جونسون، لجهة عنصرية مزعومة، أو كراهية مبطنة للإسلام – بالمناسبة ترجع أصوله إلى تركيا – أكد بوريس جونسون في مقالته ذاتها على معارضته الحظر التام لارتداء النقاب، وأبدى استغرابه إزاء إقدام دول أوروبية عدة، آخرها الدنمارك، على فرض ذلك الحظر.
يبقى أنه حتى لو لم يتعمّد بوريس جونسون إثارة كل ما ثار من جدل، فقد نجح خصومُه، قبل أنصاره، في إهدائه المزيد من تركيز الضوء على شخصه المثير للجدل مذ ظهوره على مسرح السياسة البريطانية. ويبقى أيضاً استحضار حقيقة أن الكلمة كانت منذ البدء. وكما بين الطير جوارح وكواسر، ثمة كلمات تُقال ليس يُحسب لها حساب. يحدث ذلك أحياناً بقصد وإدراك، وأحياناً بلعب واستهزاء، لكن تأثير ما قيل يجرح مشاعر أناس ويكسر أحاسيس آخرين. هل يكون الحل، إذن، في حظر كل كلام؟ كلا، بكل تأكيد، إذ ما معنى الحياة وما قيمتها بلا أنفاس حرة؟ بيد أن المهم هو أن يتحسس العاقل مسؤولية ما سيقول أو يكتب قبل أن يملأ الفضاء بزعيق قد تكون عواقبه عكس ما أراده، فلا هو يستفيد فيحقق المُراد، ولا يفيد غيره، بل يؤذيه.
نعم، وكلا. حقاً، أخطأ جونسون في اختيار كلمات جارحة لم يكن مضطراً لها، خصوصاً إذ هو يتعامل مع موضوع دقيق وحساس كما هو شأن لباس المرأة المسلمة. ثم إن خطأ المُشاكس جونسون يتضاعف إذا وُضِع في الاعتبار أن الرجل صحافي وكاتب ومؤرخ، قبل أن يخوض معترك العمل السياسي، بدءاً بعضوية مجلس العموم، مروراً بموقع عمدة عاصمة كبرى بحجم لندن، وصولاً إلى وزير خارجية حكومة تيريزا ماي، حتى ظُهر التاسع من الشهر الماضي. أليس الجدير بمن امتلك ناصية القلم ووُهِب مقدرة الكتابة، أن يُقدِّر مسؤولية الكلمة فيزنها بميزان الذهب، كما قيل منذ أزمان بعيدة، قبل أن ينطقها أو ينشرها على الملأ؟ بلى، ولو أن بوريس جونسون فعل ذلك، لما استخدم كلمات تُعد من تعابير الشوارع في وصف أمر يهم المجتمع ككل، فبدا في هكذا تصرف كمن أضاع المضمون المهم لرسالة أراد توصيلها للرأي العام. كذلك، أخطأ السيد جونسون لجهة أنه، سواء أراد أو لم يُرد، وضع ثقله المُعتبر إلى جانب تيار عنصري يسعى إلى توسيع دائرة «الإسلاموفوبيا» وتعميق مخاوف أهل بريطانيا الأصليين إزاء المهاجرين عموماً، والمسلمين خصوصاً. في هذا السياق، لفتني ما ذكرته سارة خان في صحيفة «صاندي ميرور» الأحد الماضي، لجهة أن 0.01 في المائة فقط من نساء بريطانيا المسلمات، يرتدين النقاب، فهل أن هكذا نسبة تستحق أن يعطيها سياسي مثل جونسون اهتمامه؟
نعم، ربما أخطأ جونسون في اختيار الكلمات، وفي إعطاء أهمية لنقاب نسبة ضئيلة بين نساء بريطانيا المسلمات، لكن الرجل لم يرتكب أي «جُرم»، وفق ما أوحت به أقوال كثيرين، خصوصاً بين معارضيه السياسيين، في الرد عليه. بل على عكس ما تعمّد ممارسو النفاق السياسي ترويجه ضد جونسون، لجهة عنصرية مزعومة، أو كراهية مبطنة للإسلام – بالمناسبة ترجع أصوله إلى تركيا – أكد بوريس جونسون في مقالته ذاتها على معارضته الحظر التام لارتداء النقاب، وأبدى استغرابه إزاء إقدام دول أوروبية عدة، آخرها الدنمارك، على فرض ذلك الحظر.
يبقى أنه حتى لو لم يتعمّد بوريس جونسون إثارة كل ما ثار من جدل، فقد نجح خصومُه، قبل أنصاره، في إهدائه المزيد من تركيز الضوء على شخصه المثير للجدل مذ ظهوره على مسرح السياسة البريطانية. ويبقى أيضاً استحضار حقيقة أن الكلمة كانت منذ البدء. وكما بين الطير جوارح وكواسر، ثمة كلمات تُقال ليس يُحسب لها حساب. يحدث ذلك أحياناً بقصد وإدراك، وأحياناً بلعب واستهزاء، لكن تأثير ما قيل يجرح مشاعر أناس ويكسر أحاسيس آخرين. هل يكون الحل، إذن، في حظر كل كلام؟ كلا، بكل تأكيد، إذ ما معنى الحياة وما قيمتها بلا أنفاس حرة؟ بيد أن المهم هو أن يتحسس العاقل مسؤولية ما سيقول أو يكتب قبل أن يملأ الفضاء بزعيق قد تكون عواقبه عكس ما أراده، فلا هو يستفيد فيحقق المُراد، ولا يفيد غيره، بل يؤذيه.