مع دخول المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران إلى حيز المرحلة الأولى من العقوبات الاقتصادية، يبقى التساؤل: هل ستبقي أوروبا على دورها المراوغ تجاه العلاقات مع إيران، أم أنها حكماً وفي نهاية المطاف سوف تنصاع إلى الإرادة الأميركية العليا وتمضي في طريقها؟
ربما يبدو الجواب محاطاً بإشكاليات معقدة، وبخاصة في ضوء الاضطرابات الناشبة بين واشنطن وبروكسيل، إذ لا يزال الرئيس ترامب يتعاطى مع الأوروبيين بعقلية رجل الأعمال وصانع الصفقات، بأكثر منه صاحب الرؤية المستقبلية. ليس جديداً الإشارة إلى أن العلاقات الإيرانية – الأوروبية تكاد تكون مفيدة بالفعل لأوضاع الاقتصادات الأوروبية، فإيران لديها ناتج محلي إجمالي كبير، وفرص الصناعة النفطية فيها واسعة ومتعددة المجالات، عطفاً على صناعة السيارات، وجميعها يمكنها أن تزخم بشكل كبير حركة التجارة الأوروبية، سيما وأن السوق الإيراني عاش لسنوات عدة تحت طائلة العقوبات، ولهذا يبقى متعطشاً جداً لكافة مناحي وأشكال التبادل مع الأسواق الخارجية.
غير أن الأرقام لا تكذب ولا تضلل، ذلك أن إجمالي التبادل التجاري بين أوروبا وإيران لا يتجاوز العشرة مليارات دولار، في حين يصل حجم التجارة بين أوروبا والولايات المتحدة قرابة الثمانمائة مليار دولار، أي أنه لا وجه للمقارنة أو للمفاضلة بين الطرفين، الأميركي الذي يعد حليفاً وشريكاً استراتيجياً من زمن الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وإيران التي تعد تهديداً قائماً وقادماً للأوروبيين لو يعقلون.
ما الذي يجعل الأوروبيين متمسكين على هذا النحو بالاتفاق النووي الإيراني؟
بداية أثبتت الوثائق المهربة من الداخل الإيراني أن الهدف الأكبر لا يزال الحصول على السلاح النووي، الأداة التي ستمكن الملالي من بسط نفوذهم في الإقليم وليضحوا بدرجة أو بأخرى المكافئ الموضوعي لإسرائيل أو هكذا يتصورون. يقول الأوروبيون إن الاتفاق النووي يعد صفقة جيدة تقطع الطريق ولو مؤقتاً على سعي إيران لحيازة قنبلة نووية، لكنهم يدركون في أعماقهم أنه بعد عام 2025 ستكون إيران مطلقة اليد في الحصول على تلك الأسلحة الفتاكة وساعتها ماذا هم صانعون؟
تحت الضغوطات الأميركية تحرك الأوربيون متحدثين إلى الإيرانيين على خجل ووجل عن برنامجهم الصاروخي، والجميع يتذكر زيارة وزير الخارجية الفرنسي «جان ايف لودريان» إلى طهران في مارس المنصرم للحديث عن مخاوف الأوروبيين من صواريخ الملالي.. ماذا كان الرد الإيراني؟
باختصار غير مخل أخبروا وزير فرنسا ومندوب إيران أن برنامجهم للصواريخ الباليستيتة غير قابل للتفاوض، وفيما يشبه الشرط التعجيزي لوقف هذا البرنامج أبلغه الإيرانيون أنهم سيتوقفوا في حالة واحدة فقط، وهي عندما يتخلى الأوروبيون والأميركيون عن برامج صواريخهم طويلة المدى، وكأن طهران هي موسكو التي تفاوض واشنطن عبر محادثات للحد من انتشار الأسلحة النووية الصاروخية.
هل يمكن للأوروبيين أن يغضوا أبصارهم عن صواريخ إيران الباليستية وبعضها يصل مداها إلى أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، وبهذا تقع القارة الأوروبية وأجزاء من آسيا في مرمى الصواريخ الإيرانية، ومن بين تلك الصواريخ «شهاب 4»، والذي تتذرع إيران بانها صنعته لأغراض فضائية، لكن الحقيقة أنه أداة لتهديد مستقبلي لأوروبا وآسيا؟
يحتاج الجواب إلى تفصيل الكلام عن برنامج إيران الصاروخي إلى حديث قائم بذاته.
ويبقى السؤال :«هل يتعامى الأوروبيون عن الخطر الإيراني المحدق بهم مقابل بعض المصالح الاقتصادية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ عدد وافر من الخبراء السياسيين الأوروبيين يرون أن خطأ تجاهل التمرد الإيراني الساعي لتكوين إمبراطورية نووية وصاروخية سيكرر خطأ أوروبا الذي لا يغتفر حين تركت أودلف هتلر في النصف الأول من القرن العشرين يمضي في مشروعه العنصري النازي، ذاك الذي كلف العالم أكثر من ستين مليون قتيل، وخسائر في الممتلكات احتاجت إلى عقود لإصلاحها، ناهيك عن خلق وضع جيواستراتيجي مكن الشيوعية من الاستيلاء على نصف القارة الأوروبي الشرقي.
هل سيقدر للأوروبيين أن يقفوا طويلاً في مواجهة الحليف الأميركي وعلى الضد من توجهاته ناحية إيران؟
الجواب يعود بنا إلى نموذج من نماذج الصراع أو التضاد الأوروبي – الأميركي في الأعوام الأخيرة، والخاص باستيراد الغاز من روسيا، عبر ما يعرف بخط «سيل الشمال 2». هذا المشروع تقف أمامه واشنطن بالمرصاد، وخلال قمة «الناتو» الأخيرة تحدث ترامب عن الأوروبيين الذين وصفهم بأن واشنطن تنفق عليهم مليارات الدولارات من أجل ضمان أمنهم وسلامهم، في حين يذهبون بدورهم إلى روسيا الاتحادية لاستيراد الغاز الطبيعي منها.
لم يُقدّر للأوروبيين الصمود طويلاً وخوفاً من حرب تجارية جديدة مع الأميركيين أبرموا الأيام الماضية «صفقة جديدة» لاستيراد المزيد من الغاز من الأميركيين مضحين بالروس. المشهد السابق يشي بأن أوروبا لن تقاوم كثيراً الضغوطات الأميركية من أجل تغيير موقفها من إيران، وهي المعرضة لصواريخهم من جهة، ولفرق اغتيالاتهم التي أثبتت الأيام أنها تملأ أوروبا من ناحية ثانية.
اللعب على المتناقضات والتسويف لن يفيدا أوروبا طويلاً وحان وقت الحسم.
*كاتب مصري