نحن أمام حالة عقلية بقدر ما نحن أمام حرب من نوع جديد. لم ينسَ المؤرخون ما عرف بحرب الأفيون التي شُنّت على الصين في حقبة من التاريخ. لكن أخطر الحروب وأكثرها تعقيداً تلك التي يُعبأ لها الإنسان كل قواه ليشنها على ذاته. إيران عاشت حقباً طويلة حرباً داخلها كمجتمع وكيان سياسي واجتماعي. منذ إسقاط نظام الشاه واستيلاء الخميني على السلطة أعلنت إيران الحرب على نفسها. أقام الخميني نظاماً غريباً عجيباً لا مثيل له في التاريخ الحديث.
بعد معاهدة وستفاليا سنة 1648 ولد مفهوم وكيان الدولة الذي ظلَّ يتطور عبر التاريخ. دولة ولاية الفقيه الذي يحكم نيابة عن الإمام الغائب (المهدي المنتظر) هي كيان متخيل ليست له ثوابت دستورية تخلق منظومة إدارية وسياسية ومالية محددة. نظام ولاية الفقيه، هل هو نظام ملكي أم رئاسي؟ نظام برلماني أم مختلط؟ ما هي صلاحيات من يطلق عليه رئيس الدولة؟ وما هي صلاحيات مجلس الشورى التشريعية؟ المرشد الأعلى للثورة ليس هو الحاكم الأوحد والمطلق، ولكنه أيضاً هو من يفكر ويقرر، يصنع السلام والحرب. لقد ألقى الدستور الإيراني الذي جرى إقراره بعد ثورة الخميني، البلاد في فقاعة كبيرة، هي الكون الخيالي الذي صنع أهدافاً ليست من السماء ولا من الأرض. أصبح الكيان الإيراني يعيش دنيا الإنكار، أي التعامل مع عالم خلقه هو بذاته ولا وجود له على أرض العالم.
قسّم الخميني العالم إلى قسمين؛ تابع له يأتمر بمعتقداته، وآخر عدو لا بدّ من مواجهته لتغييره من أجل تحويله إلى القسم الأول. هذا التقسيم شمل المجتمع الإيراني ذاته، فكل من هو ليس موالياً للنظام فكرياً وسياسياً فهو عدو لا بدّ من مواجهته. وأضحت القاعدة السياسية بل العقدية هي أن من يختلف معك لا بدّ من مواجهته بقوة. لا نحتاج إلى طرح السؤال؛ من هو عدو إيران؟ ولكن نتساءل من هو صديقها؟ من قراءة دستور الثورة الإيراني نصل إلى الإجابة مباشرة. خوض معركة كونية من أجل القضاء على الظلم والاستكبار والتسلط. لكن ما هي المعايير التي تحدد طبيعة الظلم والتسلط، وما هو البديل العادل الذي سيحل مكان ما هو مرفوض؟ تلك مرحلة أخرى ستهل على الكون عندما يبزغ الإمام المنتظر (المهدي) الذي «سيملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً»، إذن العدو الجائر الظالم هو السلم الذي سيهبط الإمام المنتظر على درجاته ليقوم بمهمته القدرية.
أنفق النظام الفقهي المال والجهد والكلام لتعبئة الشعب الإيراني في الداخل لإعداده لليوم الموعود المنتظر. تلك هي الهوية الجامعة المانعة للنظام التي عمل على وضع الإيرانيين في بوتقتها. كل من يخالف أو يختلف مع هذا المسار فهو عدو مبين، وهكذا دفع كثير من أبناء الشعب الإيراني حياتهم وآخرون ضاعوا في متاهة العوز والمعاناة.
بعد معاهدة وستفاليا سنة 1648 ولد مفهوم وكيان الدولة الذي ظلَّ يتطور عبر التاريخ. دولة ولاية الفقيه الذي يحكم نيابة عن الإمام الغائب (المهدي المنتظر) هي كيان متخيل ليست له ثوابت دستورية تخلق منظومة إدارية وسياسية ومالية محددة. نظام ولاية الفقيه، هل هو نظام ملكي أم رئاسي؟ نظام برلماني أم مختلط؟ ما هي صلاحيات من يطلق عليه رئيس الدولة؟ وما هي صلاحيات مجلس الشورى التشريعية؟ المرشد الأعلى للثورة ليس هو الحاكم الأوحد والمطلق، ولكنه أيضاً هو من يفكر ويقرر، يصنع السلام والحرب. لقد ألقى الدستور الإيراني الذي جرى إقراره بعد ثورة الخميني، البلاد في فقاعة كبيرة، هي الكون الخيالي الذي صنع أهدافاً ليست من السماء ولا من الأرض. أصبح الكيان الإيراني يعيش دنيا الإنكار، أي التعامل مع عالم خلقه هو بذاته ولا وجود له على أرض العالم.
قسّم الخميني العالم إلى قسمين؛ تابع له يأتمر بمعتقداته، وآخر عدو لا بدّ من مواجهته لتغييره من أجل تحويله إلى القسم الأول. هذا التقسيم شمل المجتمع الإيراني ذاته، فكل من هو ليس موالياً للنظام فكرياً وسياسياً فهو عدو لا بدّ من مواجهته. وأضحت القاعدة السياسية بل العقدية هي أن من يختلف معك لا بدّ من مواجهته بقوة. لا نحتاج إلى طرح السؤال؛ من هو عدو إيران؟ ولكن نتساءل من هو صديقها؟ من قراءة دستور الثورة الإيراني نصل إلى الإجابة مباشرة. خوض معركة كونية من أجل القضاء على الظلم والاستكبار والتسلط. لكن ما هي المعايير التي تحدد طبيعة الظلم والتسلط، وما هو البديل العادل الذي سيحل مكان ما هو مرفوض؟ تلك مرحلة أخرى ستهل على الكون عندما يبزغ الإمام المنتظر (المهدي) الذي «سيملأ الدنيا عدلاً بعد أن ملئت جوراً وظلماً»، إذن العدو الجائر الظالم هو السلم الذي سيهبط الإمام المنتظر على درجاته ليقوم بمهمته القدرية.
أنفق النظام الفقهي المال والجهد والكلام لتعبئة الشعب الإيراني في الداخل لإعداده لليوم الموعود المنتظر. تلك هي الهوية الجامعة المانعة للنظام التي عمل على وضع الإيرانيين في بوتقتها. كل من يخالف أو يختلف مع هذا المسار فهو عدو مبين، وهكذا دفع كثير من أبناء الشعب الإيراني حياتهم وآخرون ضاعوا في متاهة العوز والمعاناة.
أما مع الخارج فالعداوة هي البداية والنهاية. تحول الوطن إلى بازار سياسي وآيديولوجي للعقول، مالكه هو الفقيه الذي يحدد البضاعة وأسعارها، بازار عملته البشر أجساداً وعقولاً. إيران لم تعش على مدى قرون أربعة بلا حرب في الداخل والخارج، الغائب الدائم هو خطط التنمية والتطور والتنوير ونقل البلاد من فقاعة العصور الوسطى إلى دنيا الواقع الحديث المتقدم.
كل دولة في العالم كبيرة أو صغيرة، تحدد أهدافها الأساسية، تُعبئ إمكاناتها المالية والبشرية من أجل الوصول إلى تلك الأهداف في قوس زمني محدد. تطوير حياة سكانها في جميع القطاعات هي الغاية التي تتحرك نحوها آلة الدولة بكل مقدراتها وقدراتها. ما الأهداف التي عبأت الدولة الإيرانية إمكاناتها لتحقيقها؟ تصدير الثورة التي عبأتها في صناديق السلاح والمال والآيديولوجيا. ترتب على ذلك إنتاج كتلة من العداوة مع دول ومجتمعات قريبة وبعيدة، وكلفت البلاد أرواح كثير من شبابها وأفرغت خزائنها وأوهنت كيانها.
الفرص الضائعة، تكلفتُها خسائر تشحذ سلاحها ذاتياً. بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية، اتجهت أنظار الدول الكبيرة بما فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين نحو إيران اعتقاداً من الجميع أنها ستوجه إمكاناتها المالية والبشرية نحو التنمية بعدما عانته من تلك الحرب الطويلة الدامية. تدافعت الشركات النفطية والصناعية في جميع المجالات نحو طهران إلى درجة جعلت الحصول على تذكرة إلى طهران بالغ الصعوبة. البازار الفقهي الآيديولوجي كان هو السوق الكبرى المهيمنة على مفاصل البلاد، ساد الاقتناع لدى الراكضين إلى طهران أن فرص العمل ليست بذلك الحجم المتوقع.
تجربة الصين وغيرها من الدول التي غادرت بازار الآيديولوجيا، وسارت على طريق إعادة إنتاج عقلها وأهدافها، كانت الحادي الذي صنع التوقعات لإيران ما بعد الحرب، لكن الإحباط اتسع. خاضت إيران حرباً واحدة مع العراق، لكن بعد نهايتها فتحت جبهات أخر. البرنامج النووي الإيراني كان الحرب الكبرى التي أعلنت حالة الطوارئ على الصعيد الدولي.
رغم تعقيدات ذلك الملف، كان وجود الرئيس الأميركي السابق براك أوباما فرصة لإيران لتعيد قراءة ذاتها. أوباما انتهج سياسة «الاحتواء» التي أعتقد أنها ستجعل إيران شريكاً للمجتمع الدولي، ونجح من خلال مجموعة «5+1» في الوصول إلى اتفاق عادل يرضي جميع الأطراف. كانت تلك الفرصة الذهبية لإيران أن تلج إلى العالم من بوابة ذلك الاتفاق، لكن الفرص مثل فصول السنة لا تدوم.
دونالد ترمب، الرئيس الأميركي اليميني المتشدد ضمَّ إيران إلى برنامجه الانتخابي، وتوعّد بإلغاء الاتفاق النووي معها في حال فوزه. وقد كان الفوز، ومن ثمَّ إلغاء الاتفاق. ضم الرئيس الجديد إلى حزمة الخلاف مع إيران، الصواريخ التي تعتبرها إيران ذراعها العسكرية القوية، وكذلك تدخلاها في كثير من الدول. سلم الرئيس الأميركي الملف إلى اثنين من المتشددين تجاه إيران هما جون بولتون مستشار الأمن القومي وبومبيو وزير الخارجية، وبدأ حبل العقوبات الأميركية يضيق حول رقبة إيران. الدول الخمس التي شاركت في مفاوضات الملف الإيراني أجمعت على تمسكها بالاتفاق بما فيها الدول الأوروبية الحليفة لأميركا. لكن الحقائق الاقتصادية والعسكرية تقول: إن التوازن في هذه المعركة معدوم. الشركات الأوروبية لا تستطيع المغامرة بعلاقاتها التجارية الضخمة مع أميركا من أجل التعامل مع إيران التي لا يرقى حجمها المالي إلى ما تتمتع به ولاية أميركية صغيرة. الصين وروسيا والهند وكذلك تركيا ودول أخرى تتحرك بوقود التجارة، ورغم الخلاف بين هذه الدول وأميركا فإن ما يبعدها عن إيران أكبر.
الاتحاد الأوروبي يتخوف من انهيار النظام في إيران، ما سيزيد الموقف المعقد في الشرق الأوسط تعقيداً، وهم يعتقدون أن سياسة الاحتواء ما زالت لها فرصة مع إيران. المشكلة الحقيقية أن النظام الإيراني جعل من خطاب العداء لأميركا والآخر جزءاً من منظومته الآيديولوجية، وتشكلت في مفاصل النظام كائنات تعيش سياسياً ومالياً على ذاك الخطاب البازاري. الخطورة الكبرى على النظام الإيراني اليوم هي الشارع المحتقن الذي يعيش محنة الحياة… متى سينفجر؟ وكيف؟
كل دولة في العالم كبيرة أو صغيرة، تحدد أهدافها الأساسية، تُعبئ إمكاناتها المالية والبشرية من أجل الوصول إلى تلك الأهداف في قوس زمني محدد. تطوير حياة سكانها في جميع القطاعات هي الغاية التي تتحرك نحوها آلة الدولة بكل مقدراتها وقدراتها. ما الأهداف التي عبأت الدولة الإيرانية إمكاناتها لتحقيقها؟ تصدير الثورة التي عبأتها في صناديق السلاح والمال والآيديولوجيا. ترتب على ذلك إنتاج كتلة من العداوة مع دول ومجتمعات قريبة وبعيدة، وكلفت البلاد أرواح كثير من شبابها وأفرغت خزائنها وأوهنت كيانها.
الفرص الضائعة، تكلفتُها خسائر تشحذ سلاحها ذاتياً. بعد نهاية الحرب الإيرانية العراقية، اتجهت أنظار الدول الكبيرة بما فيها الولايات المتحدة والدول الأوروبية والصين نحو إيران اعتقاداً من الجميع أنها ستوجه إمكاناتها المالية والبشرية نحو التنمية بعدما عانته من تلك الحرب الطويلة الدامية. تدافعت الشركات النفطية والصناعية في جميع المجالات نحو طهران إلى درجة جعلت الحصول على تذكرة إلى طهران بالغ الصعوبة. البازار الفقهي الآيديولوجي كان هو السوق الكبرى المهيمنة على مفاصل البلاد، ساد الاقتناع لدى الراكضين إلى طهران أن فرص العمل ليست بذلك الحجم المتوقع.
تجربة الصين وغيرها من الدول التي غادرت بازار الآيديولوجيا، وسارت على طريق إعادة إنتاج عقلها وأهدافها، كانت الحادي الذي صنع التوقعات لإيران ما بعد الحرب، لكن الإحباط اتسع. خاضت إيران حرباً واحدة مع العراق، لكن بعد نهايتها فتحت جبهات أخر. البرنامج النووي الإيراني كان الحرب الكبرى التي أعلنت حالة الطوارئ على الصعيد الدولي.
رغم تعقيدات ذلك الملف، كان وجود الرئيس الأميركي السابق براك أوباما فرصة لإيران لتعيد قراءة ذاتها. أوباما انتهج سياسة «الاحتواء» التي أعتقد أنها ستجعل إيران شريكاً للمجتمع الدولي، ونجح من خلال مجموعة «5+1» في الوصول إلى اتفاق عادل يرضي جميع الأطراف. كانت تلك الفرصة الذهبية لإيران أن تلج إلى العالم من بوابة ذلك الاتفاق، لكن الفرص مثل فصول السنة لا تدوم.
دونالد ترمب، الرئيس الأميركي اليميني المتشدد ضمَّ إيران إلى برنامجه الانتخابي، وتوعّد بإلغاء الاتفاق النووي معها في حال فوزه. وقد كان الفوز، ومن ثمَّ إلغاء الاتفاق. ضم الرئيس الجديد إلى حزمة الخلاف مع إيران، الصواريخ التي تعتبرها إيران ذراعها العسكرية القوية، وكذلك تدخلاها في كثير من الدول. سلم الرئيس الأميركي الملف إلى اثنين من المتشددين تجاه إيران هما جون بولتون مستشار الأمن القومي وبومبيو وزير الخارجية، وبدأ حبل العقوبات الأميركية يضيق حول رقبة إيران. الدول الخمس التي شاركت في مفاوضات الملف الإيراني أجمعت على تمسكها بالاتفاق بما فيها الدول الأوروبية الحليفة لأميركا. لكن الحقائق الاقتصادية والعسكرية تقول: إن التوازن في هذه المعركة معدوم. الشركات الأوروبية لا تستطيع المغامرة بعلاقاتها التجارية الضخمة مع أميركا من أجل التعامل مع إيران التي لا يرقى حجمها المالي إلى ما تتمتع به ولاية أميركية صغيرة. الصين وروسيا والهند وكذلك تركيا ودول أخرى تتحرك بوقود التجارة، ورغم الخلاف بين هذه الدول وأميركا فإن ما يبعدها عن إيران أكبر.
الاتحاد الأوروبي يتخوف من انهيار النظام في إيران، ما سيزيد الموقف المعقد في الشرق الأوسط تعقيداً، وهم يعتقدون أن سياسة الاحتواء ما زالت لها فرصة مع إيران. المشكلة الحقيقية أن النظام الإيراني جعل من خطاب العداء لأميركا والآخر جزءاً من منظومته الآيديولوجية، وتشكلت في مفاصل النظام كائنات تعيش سياسياً ومالياً على ذاك الخطاب البازاري. الخطورة الكبرى على النظام الإيراني اليوم هي الشارع المحتقن الذي يعيش محنة الحياة… متى سينفجر؟ وكيف؟