نون والقلم

السيد زهره يكتب: حرب كرموز

تعرض دور السينما في البحرين هذه الأيام الفيلم المصري «حرب كرموز». انا في الحقيقة ممتن جدا لابني نور الذي دعا زوجتي ودعاني لمشاهدة الفيلم.

هو فيلم كبير له قيمة ورسالة وطنية يستحق المشاهدة.

أحداث الفيلم تجري في حي كرموز الشهير بمدينة الإسكندرية في مطلع أربعينيات القرن الماضي حين كانت مصر خاضعة للاحتلال الإنجليزي.

الفيلم مبني جزئيا على وقائع حقيقية، أو بالأحرى ملحمة وطنية سجلها رجال الشرطة المصرية يوم 25 يناير عام 1952. في ذلك اليوم، وجهت قوات الاحتلال الإنجليزي الغاشم إنذارا لقوات البوليس المصري في مدينة الاسماعيلية بأن يسلموا أسلحتهم وأن يتركوا مبنى المحافظة ومعسكرهم قبل الغروب. رجال البوليس المصري رفضوا الإنذار، وأيدهم في ذلك وزير الداخلية المصري في ذلك الوقت فؤاد سراج الدين. عند الغروب، حاصر سبعة آلاف من قوات الاحتلال مبنى المحافظة ومعهم ترسانة من الدبابات والسيارات المدرعة والمدافع وفتحوا النار بكل ترسانتهم هذه. لم يكن عدد رجال البوليس يتجاوز 800 مسلحين بالبنادق فقط ومن دون ذخيرة كافية، ومع هذا، قاوموا قوات الاحتلال ببسالة منقطعة النظير لأكثر من ساعتين، وانتهت المعركة بمذبحة ارتكبها الاحتلال، استشهد فيها 64 وأصيب نحو 200. هذه الملحمة البطولية لرجال الشرطة المصرية اشعلت الروح الوطنية في مصر كلها، وكانت أحد أسباب اشتعال المقاومة الشعبية المجيدة في كل مدن القناة ضد الاحتلال، وأصبح هذا اليوم بعد ذلك عيدا للشرطة المصرية.

الفيلم يستند فقط إلى هذه الواقعة التاريخية، لكنه ليس تسجيلا لها بالضبط. هو ينطلق منها فقط، ويضيف وقائع وأحداثا أخرى، ويضعها في إطار درامي مبهر ومشوق، ويصور كيف تصدى رجال البوليس محدودو العدد جدا في قسم حي كرموز، ومعهم الأهالي لقوات الاحتلال الغاشم ورفضوا الاستسلام أو التراجع.

بعض النقاد اعتبروا أن القيمة الأساسية للفيلم هي أنه يعيد تقديم «البطل الشعبي» في صورة جديدة، ممثلا في الجنرال يوسف المصري رئيس قسم بوليس كرموز، ويقوم بدوره النجم أمير كرارة، الذي رفض الاستسلام رغم العدد المحدود جدا من رجاله وتسليحهم الهزيل للغاية، وقاد المعركة مع قوات الاحتلال الغاشم والتف حوله أهالي الإسكندرية.

الحقيقة أن الفيلم تتجاوز أهميته ورسالته هذا بكثير. الفيلم يعيد أولا جزءا مهما من ذاكرة الوطن ينبغي ألا يطويها النسيان. والفيلم يكرس قيما وطنية نبيلة نحن أحوج ما نكون إليها.

أما عن الذاكرة الوطنية، فالفيلم يعيد إلى الذاكرة بداية وحشية الاحتلال الإنجليزي وجرائمه المروعة بحق مصر والمصريين وعنصريته وكل قبحه. يظهر الفيلم هنا كيف أن قائد قوات الاحتلال التي أنذرت وحاصرت قسم كرموز لم يكن لديه أي مانع وبلا أي تردد في أن يهدم الحي كله بدباباته ومدافعه وأن يقتل أي عدد أيا كان فقط من أجل جندي بريطاني مجرم حقير محتجز في القسم بعد أن اغتصب فتاة وقتل مصريين.

والفيلم يعيد إلى الذاكرة بطولات وطنيين شرفاء دافعوا عن الوطن وتصدوا لأعدائه ولم تثنيهم قلة العدد أو الامكانيات، وضحوا بحياتهم واستشهدوا في سبيل الوطن.

في مصر، وفي كل الدول العربية يوجد كثيرون من هؤلاء الابطال الذين ضحوا من أجل الوطن، والذين نحن مدينون لهم بالكثير جدا، ولا بد أن تحفظ ذاكرة الأجيال سيرتهم وبطولاتهم.

وأما عن القيم الوطنية النبيلة التي يبرزها الفيلم، فهو ببساطة يبرز قيمة كبرى مثل الإرادة الوطنية.. إرادة الدفاع عن الوطن ومقاومة الأعداء في كل الأحوال ومطلق الأحوال.

الفيلم يعلي قيمة أن الوطن يستحق أن يحبه ويدافع عنه الكل بلا استثناء مهما كانت اختلافاتهم، أو حتى مهما كانت خطاياهم في الحياة العادية.

 يقدم الفيلم هنا نماذج وطنية جميلة. يقدم مثلا نموذج «حرامي» أي لص منازل تصادف وجوده في القسم، لكنه يرفض المغادرة حين لاحت المعركة، وقام بأعمال وطنية بطولية. ويقدم مثلا نموذج فتاة تعمل بالدعارة، لكنها أيضا تطهرت وبقيت وقاومت مع الآخرين.

وقدم الفيلم نماذج لمواطنين مصريين كانوا يتعاونون مع قوات الاحتلال، حين حانت لحظة المواجهة، وحين وضعوا أمام الاختيار، انضموا إلى المقاومة وإلى صفوف المدافعين عن الوطن.

في واحد من أجمل مشاهد الفيلم، حين أتت لحظة المواجهة وجنود الاحتلال يحاصرون قسم كرموز بقواتهم الضاربة، نرى حشدا هائلا من أهل الإسكندرية العاديين البسطاء يحيطون بالقسم وهم مستعدون للدفاع عنه.

أنا نفسي حين شاهدت الفيلم في قاعة السينما، أمدني بروح وطنية وإرادة وطنية.

أدعوك عزيزي القارئ لمشاهدة فيلم «حرب كرموز».

هذه حربنا جميعا التي لا بد أن نخوضها. هؤلاء الأعداء المجرمون القتلة مازالوا يشنون علينا نفس الحرب، وإن بطرق ووسائل أخرى. ونحن في مواجهتهم يجب أن نتسلح بكل ما نملك من حب لأوطاننا ومن إرادة على المقاومة.

الأمر الملفت أن الفيلم حقق أعلى الإيرادات وتصدر كل الأفلام المعروضة من حيث الإقبال الشعبي. والمعنى المهم هنا أن الجمهور متشوق إلى مثل هذه الأفلام الوطنية، وإلى فن يعبر عن مثل هذه القيم الوطنية.

نقلا عن صحيفة أخبار الخليج البحرينية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى