عندما تدقّ الساعة 12 منتصف هذه الليلة، ستضع الحرب الكلامية التي اتسعت آفاقها بين واشنطن وطهران أوزارها، ويبدأ الفعل والعمل بالعقوبات المنتظرة ضد النظام الإيراني، معها تجد طهران نفسها أمام مفترق طرق استراتيجي ليس جديداً على علاقاتها مع الولايات المتحدة والعالم، وحتى مع كل حرب الكلمات تلك التي شارك فيها كل أطراف النظام الإيراني، فإن ردود فعل النظام على العقوبات الأميركية أثبتت عدم فعاليتها، في ظل دخول الاستراتيجية الأميركية ضد إيران مرحلة التطبيق، وكذلك تقلص السيناريوهات الإيرانية القابلة للتحقق للتخفيف من الأضرار الهائلة الواقعة على الاقتصاد الإيراني، فمن المقرر أن تبدأ عقوبات المرحلة الأولى باستهداف التعاملات التجارية للشركات الإيرانية المتعلقة بقطاع السيارات، والذي يعد قطاعاً حيوياً للاقتصاد الإيراني، وكذلك عقوبات أخرى تحول دون حصول الحكومة الإيرانية على الدولار الأميركي، على أن يتم استئناف الجزء الثاني من العقوبات في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والتي بدورها تستهدف النفط الخام الإيراني، الذي يمثل ثلثي صادراتها، وفي حال تم تطبيق هذه العقوبات، سيكون الاقتصاد الإيراني بلا شك في وضع يرثى له، فقد ارتفعت الأسعار في إيران قبل تطبيق العقوبات بسبب المخاوف المحتملة من تعرض اقتصادها لضربة كبيرة جراء هذه العقوبات، مع انخفاض سعر الريال إلى مستوى قياسي وإعلان المزيد من الشركات الغربية عزمها على وقف التعامل مع إيران.
ومع بدء العمل بالعقوبات القاسية هذه، ورغم لغة التحدي العالية التي تحملها التصريحات الإيرانية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن الحرب وشيكة بين طهران وواشنطن، فاستراتيجية إدارة ترمب لا تزال تركز على الضغوط الاقتصادية بدلاً من الإجراءات العسكرية، وقد أوضح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو في خطابه في 22 يوليو (تموز) أن العقوبات الاقتصادية الخانقة، لا القوة العسكرية الأميركية، هي الوسيلة المستخدمة لإيقاف السلوكيات الإيرانية المتهورة، لذلك من المرجح أن تؤدي العقوبات الأميركية إلى استمرار صناع القرار الإيرانيين في نفس معضلتهم الأساسية في عدم قدرتهم على الرد بقسوة ضد الضغوط الأميركية، والاكتفاء بكبح أنفسهم لمنع دخول أوروبا على الخط في تحالف موحد ضدهم، ففي غالب الحالات التي اختارت فيها طهران مساراً عدائياً سرعان ما تراجعت، مفضلةً عدم تعريض استقرار النظام للخطر، وبالتأكيد فإن النظام الإيراني يدرك جيداً أن أي استفزاز عسكري يمكن أن يثير غضب إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويجعلها ترد بالمثل، لذا فلا يتوقع أن يتخذ الإيرانيون إجراءات مباشرة وعاجلة رداً على الضغط الأميركي، لكن ذلك لا يمنع من استغلال ميليشياتهم وأدواتهم في المنطقة، وهي نقطة القوة الوحيدة المعروفة عنهم واستخدام أسلوب المواجهة غير المباشرة.
العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران شهدت ما هو أسوأ بكثير على مدى الـ39 عاماً، وفي كل مرة يتعاطى الإيرانيون حسب المساحة الممنوحة لهم، بعيداً عن كل التهديدات والقنابل الصوتية التي يبرعون في إطلاقها، فمثلاً كانوا يعتقلون سابقاً مواطناً أميركياً واحداً أو اثنين كل عام أو نحو ذلك لمدة دامت عشر سنوات، لكن آخر مرة احتجزت فيها القوات الإيرانية مواطناً أميركياً كانت في أغسطس 2016. كما لم تُجرِ إيران أي اختبارات للصواريخ متوسطة المدى منذ يوليو 2017. وأيضاً لم تضايق السفن الحربية الأميركية في الخليج منذ شهر أغسطس من العام نفسه، كما أنها قللت من جهودها لاختبار القوات الأميركية في سوريا والخليج العربي. فعلاً العقوبات الاقتصادية قادرة على إنهاك النظام وربما كسر ظهره، الذي بدوره لن ينفّذ تهديداته العسكرية إلا في حالة واحدة: عندما يشعر أن السقوط قادم لا محالة.
اعلامي سعودي، رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط»