عندما بنت دويلة «إسرائيل» جدار الفصل العنصري، وقلبت الضفة الغربية من فلسطين المحتلة إلى سجن كبير، وعندما استمرت في عملية قضم لصوصي لأرض الضفة الغربية، المدان من قبل العالم كله، والمتعارض مع كل الحقوق والقيم الإنسانية، لبناء مستعمرات استيطانية للأغراب على حساب أصحاب الأرض وكيانهم الحقوقي المعترف به من قبل كل دول العالم، وعندما ظلت تتحدى العالم بسجن الألوف من شباب وأطفال عرب فلسطين، وبهدم البيوت، واقتلاع الأشجار، واستباحة غزة وأهلها.. عندما مارست تلك السلطات الاستعمارية العنصرية كلّ تلك القبائح الهمجية اعتبرناها تمارس أبارثايداً لا أخلاقياً، مماثلاً للأبارثايد الذي مورس في جنوب إفريقيا.
اليوم، تنتقل سلطات تلك الدويلة إلى مستوى أعلى في ميزان الشرور الشيطانية. إنها بقوانينها الجديدة، وعلى الأخص قانون الدولة القومية اليهودية، تهيئ الأجواء لممارسة رذائل التحقير، والاستعباد للإنسان العربي الفلسطيني، ولاجتثاث وجوده المادي والمعنوي في كل الأرض الفلسطينية، بل وفي كل منافي ومخيّمات لجوئه البائسة.
هذه هي الصورة التي تغيب عنها الأخلاق والقيم الإنسانية، ومشاعر التضامن البشري، وكل وحي جاءت به الديانات السماوية.
لسنا معنيين بسلطات دويلة الاحتلال التي أصبحت تجسّد عقلية المافيا التي لا تعرف إلا صنعة القتل، والابتزاز، واللصوصية. لقد فقدنا الأمل في أن توجد لديها صحوة ضمير، أو حتى أقلّ التزام بأيّ عرف دولي. هذا كيان أصبح خارج الاجتماع البشري، إذ يهذي بأنه شعب الله المختار المميز.
ولسنا معنيين بالاعتماد على الحسّ الإنساني، واحترام المواثيق الدولية وحقوق الإنسان عند أمريكا، أو أوروبا، أو روسيا، أصحاب النفوذ النسبي لدى الاحتلال، فهؤلاء لايعرفون إلا المصالح النفعية، حتى ولو قامت على أشلاء الدول والمجتمعات والبشر. تاريخهم، وتجارب العرب تشهد على ذلك.
لكن، ماذا عن الفلسطينيين، وإخوانهم، وأخواتهم العرب؟ فإذا كان ذلك لا ينهي كل صراع، وكل خلاف، وكل انقسام مصلحي، وكل مماحكة، بين كل فصائل الفلسطينيين، وأحزابهم، وأفرادهم، ودياناتهم، وإيديولوجياتهم ، فإننا لن نستطيع إلا الحكم بأن ضحية الاغتصاب اليهودي قد بدأت ترضى الاغتصاب السياسي، والثقافي، والوجودي، وتتلذّذ به، وتطلب المزيد. لن نجامل بعد الآن ، ولن نتستر على حفلات الزار، والجنون، والبلادات، والهمز، واللّمز، والكوميديات، فلقد تعب الشعب الفلسطيني من تقديم التضحيات، بينما يقوده البعض من محنة إلى محنة.
وإذا كان كل ذلك لا يقنع العدد المتزايد من الحكومات العربية المتجهة نحو التطبيع بصور علنية، وسرية، بأن سلطات هذا الاحتلال، وقسماً كبيراً من مؤسسات المجتمع المصطنع الذي أقامه، كانت ولا تزال، تتحدث عن اغتصاب ممتلكات المواطنين الفلسطينيين، واقتلاعهم من وطنهم، وترحيلهم خارج ذلك الوطن، والتمييز ضدهم في الحقوق الإنسانية كلّها، تمهيداً لإخراجهم من التاريخ، وجعل حاضرهم جحيماً لا يطاق، وإدخال مستقبلهم في مهبّ الريح، أي التنفيذ الكامل للإيديولوجية الاستعمارية الاستيطانية الاجتثاثية.. إذا كانت تلك الحكومات لم تقتنع بعد بذلك، حتى بعد القرارات الأخيرة بجعل فلسطين وطناً قومياً لليهود فقط، وبجعل مدينة الإسراء والمعراج حصرياً أبدياً لهم، فإننا لا نلام إن شممنا رائحة التخلّي عن التزاماتها القومية العروبية، بل والإعلان بأنها لا تنتمي إلى أمة العرب، ووطن العرب. وهي بإنهائها للمقاطعة السياسية، بعد أن نجحت في إنهاء المقاطعة الاقتصادية، تهيئ الطريق لتدمير النظام الإقليمي القومي العروبي في السياسة، والاقتصاد، والثقافة، والأمن والدّين.
نحن إذاً، أمام ملحمة كبرى، تتنامى بسرعة مذهلة لتصبح تراجيديا قومية وإنسانية كبرى. وهذا العالم يجب أن يعلم بأنه سيتعامل منذ الآن مع جنون صهيوني شمشوني سيدمّر نفسه، ومعه العالم كله.
لا مبالغة في ذلك، فالأخطبوط «الإسرائيلي» في كل مكان، وأدواته المالية، والإعلامية، والابتزازية في تعاظم.
ولذا أصبح الآن واضحاً أن وجود دولة يهودية، كما يخطّط لها عتاة إسرائيل ومن يناصرهم، سيعني أن الأرض العربية لن تنعم أبداً بالنمو الحضاري، والاستقلال، والعيش في سلام وتوحّد أجزاء مكوّنات أمّتها. فهذه الدولة المزمع إنشاؤها لن تسمح بذلك أبداً.
وما عادت مطالبات العالم كله بالإفراج عن السجناء الفلسطينيين، أوالتقليل من العنف الإرهابي الصهيوني، أو تخفيف الحصار عن غزة ، أو إيقاف الاستيطان أو معاودة المفاوضات تحت هذه المظلة أو تلك، أو قبول صفقة القرن الأمريكية الكاذبة في روحها ومضامينها.. ما عادت تلك المطالبات، وتلك الحلول مجدية.
ما عاد هناك إلا حل واحد: العمل على قيام دولة فلسطينية موحدة، يتعايش فيها المسيحيون والمسلمون واليهود، تقوم على أسس ديمقراطية مواطنية بحتة، مندمجة ومتناغمة مع محيطها العربي والإسلامي، جاعلة القدس محجة مرحبة بكل أتباع الديانات السماوية، بمعنى آخر بلد محبة وسلام.
وإلى حين مجيء ذلك الوقت علينا، نحن العرب، أن نبني سدّاً منيعاً في وجه أي علاقة اقتصادية، أو سياسية، أو أمنية أو ثقافية مع ذلك الاحتلال المجنون