نون والقلم

خيرالله خيرالله يكتب: العراق نموذجا!

العراق في طريق مسدود. ما يؤكد ذلك سؤال في غاية البساطة يطرح نفسه هذه الايّام في وقت امتدت التظاهرات الشعبية التي بدأت في البصرة الى بغداد. هل هناك من يستطيع التكهن بمستقبل البلد باستثناء انّه بات من باب المستحيل إعادة تشكيله كدولة موحدة كما كان عليه قبل العام 2003؟

قررت الولايات المتحدة الانتهاء من العراق وليس من النظام الذي أقامه صدّام حسين. لا يوجد تفسير آخر لما قامت به إدارة جورج بوش الابن في مارس من العام 2003 عندما باشر الجيش الاميركي عملية اجتياح للعراق. توّجت العملية في التاسع من ابريل من ذلك العام بدخول القوات الأميركية الى بغداد من دون مقاومة تذكر. كان فرار صدّام بعد ذلك من بغداد الى مسقط رأسه في العوجة، القريبة من تكريت، حيث عثر عليه الاميركيون لاحقا في حفرة اعتقد انّها ستحميه من الذين يريدون تصفية حساباتهم معه.

كان صدّام في انتظار يوم افضل للخروج يوما من الحفرة. لكنّ هذا اليوم لم يأت. عزاؤه الوحيد الآن انّ هناك من يترحّم على أيامه على الرغم من كل سوئها ومساوئها.

لم يكن اولئك الذين يريدون تصفية حساباتهم مع صدّام من الاميركيين فقط. كانت هناك ايران التي لديها ثأر قديم عليه وعلى العراق. كان الهدف الاميركي – الايراني، الذي تختبئ خلفه اسرائيل، العراق نفسه. تبيّن ان الإدارة الأميركية، التي ارادت ان تجعل من العراق نموذجا لما يفترض ان تكون عليه دول المنطقة، كانت في الواقع تجهل كلّ شيء عن البلد.

كان طبيعيا وصول العراق الى ما وصل اليه. لم يكن في الإمكان في أي لحظة تخيل ان في استطاعة ميليشيات مذهبية تابعة لإيران بناء دولة حديثة في العراق. يدفع العراق حاليا ثمن فكرة جهنّمية امتلكها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة. تقوم هذه الفكرة أساسا على الانتهاء من العراق تحت شعار برّاق هو إقامة نموذج لدولة ديموقراطية في المنطقة، دولة تمتلك في الوقت ذاته احد اكبر احتياطات النفط في العالم.

لا يختلف عاقلان يمتلكان حدا ادنى من الشعور الانساني على ان التخلص من نظام صدّام كان ضرورة. لم يمتلك النظام الذي قام على فكرة الغاء الآخر جسديا، بدءا بإعدام الخصوم من الرفاق البعثيين، في مثل هذه الايّام من العام 1979، غير لغة القمع في الداخل. على الصعيد الخارجي، لم يمتلك يوما القدرة على استيعاب المعادلات الإقليمية والدولية. هناك ادلّة عدّة تعطي فكرة عن كمية الجهل بما يدور في المنطقة والعالم لدى صدّام والذين استعان بهم. هناك الحرب مع ايران خاضها مجبرا، لكنه اعتقد في البداية انّها ستكون نزهة. وهناك المغامرة المجنونة في الكويت. وهناك الاعتقاد الذي ساد لدى صدّام بانّ الاتحاد السوفياتي يمكن ان يفعل له شيئا صيف العام 1990 عندما ارسل قواته الى الكويت من اجل الغاء دولة عربية مستقلة عضو في الامم المتحدة من الوجود. لم يأخذ علما وقتذاك ان الحرب الباردة انتهت وان الاتحاد السوفياتي دخل في مرحلة الانهيار الداخلي!

هذا غيض من فيض من ارتكابات صدّام حسين الذي يمكن ان تكون له حسنة واحدة. تكمن هذه الحسنة في انّه لم يقض كليا على مؤسسات الدولة العراقية، خصوصا على الجيش الذي تأسس في العام 1921 من القرن الماضي في عهد فيصل الاوّل.

كان حلّ الجيش والأجهزة الأمنية من بين اوّل القرارات التي اتخذتها الإدارة الأميركية بعد احتلال العراق. حصل ذلك من دون أي تفكير في البديل ومن دون وعي لخطورة ان يكون جيش العراق مجموعة من الميلشيات التابعة لاحزاب مذهبية قاتلت الى جانب ايران، من منطلق مذهبي، في حرب 1980 – 1988. كيف يمكن لزعماء مثل هذه الميليشيات بناء دولة عراقية حديثة تكون نموذجا لدول المنطقة الأخرى، في حين ان زعماء هذه الميليشيات الذين يسيطرون على السلطة والمرافق الاقتصادية الحيوية في البلد يعملون في خدمة ايران؟

يدفع العراق حاليا ثمن حلول الميليشيات مكان الدولة ومؤسساتها. لذلك، لم تكن فائدة من اجراء انتخابات تشريعية في الثاني عشر من مايو الماضي. كان كافيا الّا تعجب نتائج هذه الانتخابات ايران، كي تتعطل الحياة السياسية في البلد. لدى ايران تفسيرها الخاص للانتخابات. تعتقد، استنادا الى تفسيرها هذا، انّ الحكومة العراقية يجب ان تكون بامرتها بغض النظر عن الانتخابات. لديها تجربة خاصة بها في الماضي عندما استطاعت بعد انتخابات 2010 فرض نوري المالكي رئيسا للوزراء، مكان اياد علّاوي، بالتفاهم مع إدارة باراك أوباما.

لم ينتفض العراقيون من اجل الكهرباء والقضاء على الفاسدين. انتفضوا عمليا من اجل استعادة بلدهم من ايران التي تسعى الى فرض حكومة تتلقى اوامرها من طهران يكون على رأسها احد زعماء الميليشيات المنتمية الى «الحشد الشعبي» او ما يشبه ذلك.

سقط العراق عمليا عندما قررت الولايات المتحدة الانتهاء من الجيش العراقي. هناك كلام كثير عن إعادة بناء الجيش الذي ظهرت حدود ما هو قادر على عمله عندما سيطر «داعش» على الموصل في يونيو 2014. ما يعيشه العراق اليوم هو من تداعيات مرحلة ما بعد الحرب الأميركية – الايرانية على العراق. في النهاية، لا يمكن الاعتماد على ميليشيات مذهبية في بناء دولة ذات مؤسسات حديثة.

كان الاكراد على حقّ عندما حاولوا الخروج من دولة الميليشيات المذهبية. فشلوا في ذلك فشلا ذريعا، اقلّه الى الآن. هل ينجح الشعب العراقي، الذي لا ينتمي الى القومية الكردية، حيث فشل مسعود بارزاني في سبتمبر من العام الماضي.

توحي كلّ المؤشرات بان لا افق سياسيا للتحرك الشعبي الذي بدأ في البصرة. الخوف كل الخوف في ان يتحقق ما خطط له المحافظون الجدد في واشنطن بعد احداث 11 سبتمبر 2001. أي الانتهاء من العراق. وقتذاك شنت «القاعدة» الهجومين الإرهابيين على نيويورك وواشنطن. لم تكن للعراق علاقة بهذين الهجومين. لم يمنع ذلك إدارة بوش الابن من شن حربها العراقية قبل الانتهاء من القضاء على «طالبان» في أفغانستان. ما الذي حملها على اتخاذ مثل هذا القرار في ذلك التوقيت بالذات؟ الواضح الآن، في ضوء ما نشهده في العراق ان النتيجة المتوخاة تحققت. صار العراق نموذجا لما يفترض ان تكون عليه دول المنطقة. صار بلدا تتحكم به الميليشيات المذهبية التي تتلقى اوامرها من ايران.

في استطاعة الميليشيات ان تبني كلّ شيء باستثناء ان تبني بلدا ودولة. من لديه شكّ في ذلك يستطيع الانتقال من العراق الى لبنان. هناك تفسير إيراني لنتيجة الانتخابات النيابية اللبنانية. تريد ايران ترجمة ذلك عبر حكومة لبنانية برئاسة سعد الحريري، شكليا، تكون تابعة لها. لذلك لا حكومة الآن في لبنان. هذا يحدث في عصر الميليشيات المذهبية التي قضت على العراق واوصلته إلى الطريق المسدود الذي يهدد مصير البلد… ان لم يكن هذا المصير صار محسوما.

نقلا عن صحيفة الرأى الكويتية

أخبار ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى