يمر المشهد أو الممر الأثيوبي الأرتيري أمامي أشبه بالحلم الوردي! أنا الذي مشيت فيه عبر نهر الجاش ورائحة الدم تنبعث من كل صوب، وبقايا الجثامين على الجانبين، وهتافات «الثوار» من الطرفين تؤكد حتمية الثأر والنصر!.
هاهو الزعيم الأثيوبي يعانق الأرتيري، قائلاً: إن أفورقي «يحظى بمحبة واحترام الشعب الأثيوبي الذي يفتقده»!، فيما يرد الأخير: «لم نعد شعباً في دولتين. نحن شعب واحد. سنمضي قدماً معاً»!
كان أبو أحمد في استقبال أسياس في المطار، حيث عزفت ثلاث فرق الموسيقى لدى مرورهما على السجاد الأحمر، وأدى الراقصون رقصات تقليدية. وكنت أتذكر الصيحات والصرخات المنبعثة من معسكرات «الورود الحمراء» في أرتيريا وتلك المنبعثة من معسكرات «كرن» قرب أثيوبيا!.
كان مدير مكتب الزعيم الأثيوبي فيتسوم أريغا يغرد على تويتر «أهلاً بك في بلادك سيدي الرئيس أسياس». وكنت أتذكر التحذيرات التي أزجاها لي مدير مكتب منجستو إن حاولت ذكر اسم أسياس أمامه!
قال الزعيم الارتيري خلال مأدبة الغداء: «تعجز الكلمات عن التعبير عن السعادة التي نشعر بها الآن.. التاريخ يصنع الآن ونحن نتحدث».. ومضى قائلاً: «إن أرواحاً فقدت لكننا محظوظون بتبجيلها اليوم.. نحن شعب واحد، ومن ينسى ذلك لا يفهم وضعنا».. هاهو المشهد المخملي يكتمل: أبو أحمد يهدي خاتماً ذهبياً إلى أسياس، فيما يقدم أحد الرسامين لوحة ضخمة تحمل صورته!.
كان وزير الإعلام الاريتري يماني جبر مسكيل يكتب أو يسكب مشاعره على تويتر بعد وصول أفورقي قائلاً:«كيف يستطيع المرء أن يجد الكلمات المناسبة لوصف كثافة المشاعر الشعبية التي استحوذت على كلا البلدين، وعمق وأهمية التغيرات الواعدة الجارية في المنطقة». وكنت أتذكر مشاعر بل نصائح وزير الإعلام الأثيوبي التي همس بها في أذني قبيل دخولي على الرئيس منجستو: عندما يتحدث عن «الإقليم الارتيري» لا تسأل.. لا تستوضح.. لاتعلق!.
في اليوم التالي تلقى الزعيم الأرتيري هدية ثانية عبارة عن ناقة ملفوفة بأعلام أرتيريا وأزهارها تجسيداً لمستوى الحب والصداقة، فيما ظهر الزعيم الأثيوبي يمسح دموع إحدى الأمهات المتضررات من التشتت والقطيعة، بينما يربت الزعيم الأرتيري على كتفها! عندها قفزت الي الذهن، مشاهد مئات بل آلاف الأمهات والزوجات الثكالى والأرامل، اللائي لم يكن باستطاعتهن إظهار دموعهن!.
أسوق هذه المشاهد الحديثة، وأسترجع القديمة، في العلاقات الأثيوبية الأرتيرية، كصحفي مصري، عربي أفريقي، ليس على سبيل التسلية، ولا على سبيل التلاوم، وإنما بحكم ما تمليه الصفات الثلاث من واجب مهني وأخلاقي، فمصريّتي تحتم التنبيه من جديد وبمناسبة طبخة القرن الأفريقي الجديد، على أهمية دور مصري حقيقي وفاعل، حتى لا نفاجأ بسدود أثيوبية أخرى!.
كما أن عروبتي فضلاً عن هويتي المسلمة تحتم انتباهاً عربياً واسلامياً أكبر للصومال ولجيبوتي الجارتين اللصيقتين بأثيوبيا وأرتيريا! نريد أن يكون لنا دور حقيقي وبناء وفاعل في صومال قوي وعزيز، وجيبوتي قوية وعزيزة، ليس على سبيل المن والعطف، وإنما على سبيل المصالح المشتركة!.
كذلك فإن أفريقيتي تجعلني، أحاول فهم الاهتمام الأجنبي المتوارث بهذا القرن الأفريقي العجيب.. سوفيتياً وكوبياً وأمريكياً وفرنسياً وبريطانياً وايطالياً وروسياً وأخيراً جاءت الصين! ما الذي يريده هؤلاء كلهم وأكثر منهم من الصومال وجيبوتي، قبل أثيوبيا وأرتيريا؟! الإجابة الطبيعية بل الواقعية تقول إنه النفوذ وإنها المصالح! وطالما لم يعد للعرب نفوذ، فلنهتمْ كثيراً بالمصالح، ولنجعلها مشتركة بالفعل تشعر بها شعوب المنطقة قبل شعوبنا، وتترجمها انتماء وتمسكاً واعتزازاً، وهذه هي قمة النفوذ!
إن قطاراً صينياً يمرق كالسهم بين أديس أبابا وبين جيبوتي العاصمة قاطعاً مسافة 750 كيلومتراً في أقل من 4 ساعات، إنما يعمق حب الأثيوبيين والجيبوتيين لبكين التي لم تطلق طلقة واحدة في سماء البلدين، ويقيناً لو أنه مر، ولسوف يمر هو أو غيره بمقديشيو وهرجسية وبرعو وكل المدن الصومالية، خاطفاً المزيد من العقول والقلوب ولا مانع من الجيوب!.
كنت في الصومال أيام كان الشباب، لا يجدون فرصة واحدة للعمل، فيما كانت الفتيات يقبعن في منازلهن! وكنت في جيبوتي حينما كان القطار الوحيد القادم من أثيوبيا يقطع المسافة في يومين، قبل أن يأتي حاملاً بضاعة واحدة هي «القات» المخدر للطاقات والمفتر للعضلات. الآن جاءت قطارات العالم مستهدفة القرن الأفريقي..عمل وتنمية وتبادل تجاري في الشق الاقتصادي، وتواجد إستراتيجي دفاعاً عن المصالح ولا أقول النفوذ في الشق السياسي، فمن يشترك ومن يفضل البقاء على الرصيف؟!.