هناك لبنانان… لبنان الذي يريد ان يكون بلدا طبيعيا يهتمّ بابنائه، ولبنان الآخر أي لبنان «الساحة». يستهدف الذين يعملون من اجل لبنان «الساحة» ان يكون البلد مجرد ارض تستخدم في خدمة مآرب لا علاقة لها بلبنان واللبنانيين، مآرب تهمّ تحديدا النظام الايراني الذي يمتلك اجندة خاصة به. ورث النظام الايراني، الذي اسّس «حزب الله»، لبنان «الساحة» عن الفلسطينيين الذين اعتقدوا في مرحلة معيّنة ان لبنان منصة يمكن ان ينطلقوا منها لتحقيق اهداف سياسية. نجحوا في ذلك جزئيا على حساب لبنان واللبنانيين وعلى حساب انفسهم في نهاية المطاف بعدما اكتشفوا متأخرين انّهم كانوا، في احسن الأحوال، أداة للنظام السوري لا اكثر ولا اقلّ.
ورث بعد ذلك الايراني «الساحة» اللبنانية عن النظام السوري الذي اضطر الى دفع ثمن جريمة اغتيال رفيق الحريري، التي نفّذها او غطّاها، بالتواطؤ مع آخرين معروفين جيّدا. دفع النظام السوري الثمن بالخروج العسكري والامني من لبنان تمهيدا لليوم الذي سيخرج فيه من سوريا. وهذا ما سيحصل عاجلا ام آجلا بغض النظر عن الدعم الإسرائيلي العلني للعائلة الحاكمة هناك.
يفسر وجود لبنانين، وليس لبنان الواحد، أسباب تأخير تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري تنكبّ على معالجة الازمة الاقتصادية الخطيرة التي يمرّ فيها البلد من جهة وحمايته من العواصف الإقليمية من جهة اخرى.
هناك مآرب سياسية تسعى ايران الى تحقيقيها عبر تشكيل «حكومة العهد الاولى» وكأنه يوجد شيء، بعد اتفاق الطائف، اسمه «العهد». بين المآرب السياسية لإيران ترجمة نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة عبر حكومة تابعة لـ«حزب الله» على غرار تلك الحكومة الفاشلة التي شكّلها نجيب ميقاتي في العام 2011.
تريد ايران هذه المرّة تحويل سعد الحريري الى غطاء لحكومة تابعة لها وذلك من منطلق انّها استطاعت امتلاك أكثرية داخل مجلس النوّاب. ليس كلام الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» عن 74 نائبا موالين لإيران، من اصل 128 في المجلس الجديد، سوى دليل على رغبة في ترجمة ما تعتبره ايران حقيقة. انّها في الواقع حقيقة مشكوك فيها الى حدّ كبير، فضلا عن انّها تكشف جهلا إيرانيا في لبنان وطبيعة تكوينه.
ولكن ما العمل، عندما تعتقد ايران ان لبنان «ساحة» وان تشكيل الحكومة اللبنانية ورقة في يدها، تماما مثل تشكيل الحكومة العراقية. ايّدت ايران نتائج الانتخابات اللبنانية التي اعتبرت انّها صبّت في مصلحتها من خلال قانون وضع خصيصا لتحقيق هذه الغاية. رفضت ايران، في المقابل، نتائج الانتخابات العراقية بعد شعورها بأنّ هناك روحا وطنية عراقية، بما في ذلك في الاوساط الشيعية، تعمل من اجل التخلص من الهيمنة التي تمارسها طهران على المجتمع العراقي وعلى الحياة السياسية والاقتصادية في بلد تحوّل بين ليلة وضحاها الى بين الأكثر فسادا في العالم.
في لبنان، حيث تعمل ايران على متابعة الانقلاب الذي اخذ بعدا جديدا بعد التخلّص من رفيق الحريري في 2005 ثم بعد تحقيق انتصار على لبنان نفسه في حرب صيف عام 2006 ثم عن طريق الاعتصام في وسط بيروت لتعطيل الاقتصاد واستكمال مهمة تدمير البلد، بات لبنان في مرحلة حرجة بالفعل.
يمكن القول ان الانقلاب الذي كانت له محطات أخرى، من بينها سلسلة الاغتيالات التي بدأت بسمير قصير وانتهت بمحمد شطح، شمل غزوة لبيروت والجبل وضربا لكل مفاهيم اللعبة الديموقراطية عبر اغلاق مجلس النوّاب ومنعه من انتخاب رئيس للجمهورية. لم يعد لدى مجلس النواب من خيار آخر غير انتخاب مرشّح «حزب الله»… من اجل انقاذ ما يقي من الجمهورية.
يحاول لبنان «الساحة» الانتصار على لبنان. مطلوب حاليا تكريس طريقة جديدة في تشكيل الحكومة. مطلوب بكلّ بساطة ان يكون رئيس مجلس الوزراء مجرّد صورة لا اكثر. مطلوب بكلّ وضوح ان تعكس الحكومة وجود أكثرية في مجلس النواب. هذا معناه انّ من يقرر في داخل هذه الحكومة هو تلك الأكثرية التي تحدّث عنها قاسم سليماني ولم يجد سوى قلّة تردّ عليه وتضع النقاط على الحروف.
لماذا على لبنان دفع ثمن من يريد ان يكون البلد مجرّد «ساحة». يفترض في السياسيين اللبنانيين الواعين لخطورة ما يمرّ به الابلد الإجابة عن هذا السؤال الذي يكشف في طياته وجود من لا يزال يقوم. من يقاوم هذه الايّام هو سعد الحريري الذي يعمل من اجل حكومة «وفاقية» تكون عنوانا للمساعدات التي اقرها مؤتمر «سيدر». يفترض في مثل هذه الحكومة ان تضمّ وزراء معقولين ومقبولين من المواطن العادي الذي يعرف تماما ما هو على المحكّ. ما على المحكّ العمل فرض نظام جديد تريده ايران للبلد. نظام يعزله عن محيطه العربي لا يعود فيه للرئيس الوزراء المكلّف دور محوري في تشكيل الحكومة.
يصعب ان تكون السنة 2018 تتويجا لسلسلة الانقلابات التي بدأت باغتيال الحريري. في الواقع، بدأت هذه الانقلابات بالتمديد لاميل لحود، رئيس الجمهورية وقتذاك، رغم صدور القرار 1559 عن مجلس الامن.
ثمّة فارق كبير، فارق بين السماء والأرض، بين لبنان الطبيعي ولبنان «الساحة». لبنان «الساحة» ورقة تستخدمها ايران لتمرير سياساتها التي تشمل استخدام بيروت للتحايل على العقوبات الأميركية التي ستزداد وطأتها. مثل هذا التحايل الايراني عن طريق لبنان لن يخدم اللبنانيين، بل سيلحق ضررا بهم وبكل المؤسسات المالية في البلد.
لبنان «الساحة» قاعدة في خدمة الميليشيات المذهبية التابعة لإيران في المنطقة، بما في ذلك ميليشيا الحوثي في اليمن. للبنان «الساحة» استخدامات كثيرة لا تفيد أي منها لبنان واللبنانيين. لذلك، لا وجود سوى لخيار وحيد. يتمثل هذا الخيار في مقاومة المشروع التوسّعي الايراني الذي يسعى الى شق طريقه عبر تغيير قواعد لعبة تشكيل الحكومة اللبنانية. الأكيد انّ الأكثرية اللبنانية لن تقبل بذلك بعدما صارت مؤسسة رئاسة مجلس الوزراء عنوانا للمحافظة على الطائف وعلى المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، بدل المثالثة بين الشيعة والسنّة والمسيحيين، وعلى التوازن في البلد وممرّا للمساعدات الخارجية في حال جاءت يوما.
ما هو مطروح حاليا في لبنان يتجاوز مسألة تشكيل حكومة. المطروح بكلّ بساطة ان يكون لبنان او الّا يكون. وحدها حكومة وفاقية لا تلغي أحدا تحظى بثقة المجتمع الدولي تصلح للمرحلة الراهنة. مثل هذه الحكومة تستطيع ان تثبت انّ البلد لم يستسلم بعد، وان تركيبة المجلس النيابي ليست كما يتصورّها قاسم سليماني وغيره من الذين يعتقدون ان لبنان صار دويلة في دولة «حزب الله». نعم. هناك لبنانان. أي لبنان سينتصر؟ لبنان ثقافة الحياة ام لبنان ثقافة الموت؟ الكثير سيتوقف على ما اذا كان «حزب الله» سينجح في فرض حكومته على غرار ما فعله في العام 2011.