في أزمنة بعيدة مضت، ساد شعار «النفط سلاح في المعركة»، كان ذلك قبل حرب أكتوبر عام 1973، إلى أن وقعت تلك الحرب، واستخدم فيها النفط «سلاحاً» لأول مرة، وأظهر فاعلية جمّة، قبل أن يبدأ كثيرون، خصوصاً من سياسيي الدول المنتجة الخليجية وإعلاميها ومثقفيها، في التسويغ والتسويق لبؤس هذه النظرية، والتأكيد مجدداً على الحاجة لـ «الفصل بين النفط والسياسة»، وتكرست هذه المقولة منذ تلك الأزمنة وحتى يومنا هذا، أي لأكثر من أربعة عقود خلت.
لكن استخدام النفط كـ«سلاح» لم يتوقف أبداً، ما توقف هو استخدامه فقط في سياقات الصراع العربي – الإسرائيلي … النفط استخدم «سلاحاً» لخنق إيران والاتحاد السوفياتي من قبل والاتحاد الروسي من بعد، وشظايا هذا السلاح بدأت تطاول بلداناً بعيدة، لم يصلنا منها نحن العرب سوى «كل الخير» مع أن جدلاً يدور حول نظامها السياسي ومستوى الحريات والديمقراطية فيها، فنزويلاً مثلاً، وهو نقاش لا يعنينا كمنتجين ومصدرين عرباً للنفط، لأننا لم نختبر بعد الحرية والديمقراطية، خارج سياق التجميل المثقل بالهواجس والضوابط والشكوك.
اليوم يدور سجال محتدم، حول مغزى «تغريدات» دونالد ترامب التي طلب فيها إلى المملكة العربية السعودية، زيادة انتاجها من النفط بحوالي مليوني برميل إضافيين يومياً، وحملته الشعواء على دول منظمة «الأوبك»، بزعم أنها لا تفعل شيئاً لتخفيض أسعار النفط، والذي ذهب بعيداً على ما يبدو، في قراءة الموقف السعودي، فلم يميز بين قدرة المملكة على انتاج مليونين زيادة عن نصيبها الحالي من جهة، ورغبتها في زيادة انتاجها فعلياً بالقيمة ذاته من جهة ثانية، وهو سجال لم تتضح الحقيقة حوله حتى الآن، وقادمات الأيام وحدها كفيلة بتظهير طبيعة الاستجابة السعودية للرغبة الأمريكية وحدودها.
ترامب في مسعاه لإدارة ملف الطاقة العالمية وأسواق النفط عبر «توتير»، يريد في هذه المرحلة أن يحقق هدفين اثنين، غير مكترث بقوانين السوق ولا بنظرية العرض والطلب، ترامب يريد: (1) هبوط أسعار النفط قبل الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل، لضمان مزيد من الأصوات المؤيد لمرشحيه للكونغرس وحكام الولايات، مع ان أسعار النفط في السوق الأمريكية، أقل من نصف نظيرتها في السوق الأردنية على سبيل المثال، من دون أن تؤخذ فوراق الرواتب والأجوار ومعدلات دخل الفرد، بنظر الاعتبار… (2) أما الهدف الثاني لترامب، فيتمثل في كسب التأييد لمسعاه «خنق» إيران وفنزويلاً، الأولى لبرنامجيها النووي والصاروخي ودورها الإقليمي، والثانية لأنها «ليست ديمقراطية» كما ينبغي، وهنا يتكشف الأمر عن مفارقة غربية وعجيبة، فرئيس الدولة الأعظم، المعجب بكل الديكتاتوريات والديكتاتوريين والفاسدين والطغاة في العالم، ويجاهر بصداقتهم الشخصية الحميمة، يريد معاقبة فنزويلا لأنها ليست ديمقراطية كفاية؟!
لا شيء أكثر أهمية لدى ترامب وإدارته من البقاء في السلطة، والتجديد لولاية ثانية، وضمان أغلبية جمهورية في مجلسي الكونغرس الأمريكيين … حتى وإن اقتضى الأمر، سلب دول غنية أموال صناديقها السيادية وحقوق أجيالها القادمة في ثرواتها الطبيعية غير المتجددة، أو إن تطلب الأمر، تحريك السوق العالمي بقرارات ملؤها الغطرسة والابتزاز … لا قيمة للشركاء والحلفاء بأنفسهم، قيمتهم من منظور هذه الإدارة، تتقرر بقدرتهم على خدمة مصالحها الأضيق، وليس مصالح الولايات المتحدة الأوسع والأشمل … لا معنى لوجود هؤلاء الحلفاء، خصوصاً في دول «المحميات» كما يسميها ترامب، إلا بكونهم جنوداً مجندين، يتحركون عند أول «تغريدة» تصدر عن الرئيس في ساعات مبكرة من صباحاتنا في هذه المنطقة.
ولست هنا ألوم ترامب وصحبه على ما يفعلون لنا وبنا، فمن حقه أن يطلب ما يشاء، حتى وإن اتسم طلبه بالخبل و«اللامعقول»، طالما أنه يجد من يستجيب له، كلياً أو جزئياً.
لا بأس من استخدام النفط «سلاحاً ضد الديمقراطيين في المعركة الداخلية للولايات المتحدة، ولا بأس من تكثيف استخدامه لخنق إيران وفنزويلا وتدمير اقتصاداتهما، حتى وإن طاولت شرارات هذا السلاح، دولة مثل الاتحاد الروسي، بل ربما يكون من المحبب أن تطال شراراتها عصب الاقتصاد الروسي، طالما أن المطلوب تكريس نظام القطب الواحد، ومنع روسيا من القيام بدورها كقطب عالمي ثانٍ.
أما نحن، الذين ما زلنا نعتقد أن إسرائيل هي التهديد الأكبر، وأن القضية الفلسطينية هي أم القضايا والصراعات في المنطقة، فمحظور علينا أن نتحدث عن النفط كسلاح، وإن نحن فعلنا، فسنتهم مباشرة بأننا متخلفون، ما زلنا نعيش زمن «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وأننا بقايا يساريين وقوميين، أكل الدهر علينا وشرب، مع أنهم هم، وليس نحن، من يذكرنا المرة تلو الأخرى، بأن النفط ما زال سلاحاً قابلاً للاستخدام في كل المعارك، ما عدا في معركة العرب مع إسرائيل.