أتذكر اليوم وبعد أكثر من أربعة عقود رؤية أو نبوءة أستاذ أجيال العلوم السياسية الدكتور حامد عبدالله، العالم المصري أن «إسرائيل» لن تسمح بقيام دولة قوية أو موحدة على حدودها الشرقية، وأن أطول حدود ل«إسرائيل» هي هذه الحدود التي تزيد عن أكثر من ستمائة كيلو متر. «إسرائيل» لن تسمح بقيام سوريا القوية أو الموحدة مع غيرها من الدول العربية، ولن تسمح لغيرها من الدول كالعراق أن تكون من القوة بما يسمح لها أن تشكل نواة قوة دولة عربية قوية تختزل «إسرائيل» داخل حدود ضيقة بما يسمح بالتالي بهزيمتها.
هذه النبوءة يمكن القول إنها تتحقق اليوم وبشكل واضح في سوريا. فالوحدة التي قامت بين مصر وسوريا عام 1958 بزعامة الرئيسين عبد الناصر وشكري القوّتلي لم تدم أكثر من ثلاث سنوات، وجاء بعدها الحكم البعثي، وبدلاً من أن تتحول سوريا إلى دولة قوية تحولت إلى دولة ضعيفة بعد أن عصفت بها رياح الحرب الأهلية نتيجة أخطاء متراكمة وتدخلات إقليمية ودولية، ودخول المنظمات الإرهابية عاملاً إضافياً يخدم أجندات مشبوهة، الأمر الذي حول سوريا إلى ساحة صراع على المصالح والنفوذ، وكان ل«إسرائيل» أيضاً حصة في هذا الصراع ما فتح الأبواب أمام تقسيم بات واضح المعالم. وإلى جانب العامل السياسي هناك العامل الجغرافي، ومصادر النفط والغاز الكبيرة التي تحتويها أراضيها، وبالتالي أصبح الصراع على المكان أو الجغرافيا، وصراع على الاقتصاد.
إن استمرار الأزمة لأكثر من سبع سنوات وتهجير الملايين من أبنائها، وقتل مئات الآلاف، هي سياسة مقصودة، فعملية التهجير والقتل الهدف منها تفريغ مناطق من كثافتها السكانية ذات الطابع الطائفي المعين تمهيداً لتقسيمها لمناطق نفوذ بين الدول الإقليمية والدولية المهيمنة والمسيطرة على الأرض، وهذه الدول هي الولايات المتحدة وروسيا وبيدهما المفتاح الأخير لإنهاء الأزمة، ثم تأتي تركيا وأطماعها في شمال سوريا والحيلولة دون قيام دولة كردية، والتوغل التركي واضح في شمال سوريا والعراق، ثم إن «إسرائيل» تكرر أنها لن تنسحب من مرتفعات الجولان المحتلة، وتسعى لإقامة حزام أمني في الجنوب السوري من حولها من خلال مجموعات إرهابية مسلحة لأنها لن تسمح بتواجد دولة معادية كإيران على حدودها، التي نجحت من خلال دعم النظام السوري في الوصول إلى شواطئ البحر المتوسط.
هذا التواجد لهذه الدول يعكس مدى عمق الأزمة وتعقيداتها ليس من منظور أسبابها الداخلية، ولكن من منظور المصالح المتصارعة على هذه الدولة. وما الضربة الثلاثية الأخيرة على سوريا إلا رسالة للنظام بأن لا يتجاوز الحدود المرسومة له. ولعل المفارقة في الأزمة السورية غياب التواجد العربي الفاعل والمباشر بسبب الانقسام والتباين من الأزمة ومن النظام.
ولو نظرنا إلى الخريطة السياسية والعسكرية القائمة على أرض الواقع سنجد تقسيما قائماً يحتاج فقط إلى من يترجمها. فمنطقة غرب الفرات تسيطر عليها القوات السورية والروسية والإيرانية، وشرق الفرات تسيطر عليه القوات الأمريكية وحلفاؤها، والجولان تحتله «إسرائيل» منذ عام 1967 وتحاول فرض شرعية القوة على احتلالها. ويسيطر النظام السوري على وسط وغرب البلاد وأجزاء من الجنوب وهي مساحة ليست قليلة. وما زالت منطقة إدلب مفتوحة للصراع ولم تحسم أي من الأطراف مصيرها.
ومما قد يسرع في عملية تفكيك سوريا وتقسيمها إلى دويلات، أن هذا الهدف مشترك لكل الأطراف الإقليمية والدولية، وخصوصا «إسرائيل»، وذلك مع تراجع الدور العربي. والولوج لهذا السيناريو قد يكون بالحرب بين «إسرائيل» وإيران على أرض سوريا، بقرار «إسرائيلي» تحت ذرائع كثيرة، وعلى مرأى ومسمع الولايات المتحدة التي قد تعطي «إسرائيل» الضوء الأخضر. ثم يأتي دور الدول الكبرى بالتدخل لوقف الحرب وفرض تسوية سياسية على جميع الأطراف من خلال تقاسم النفوذ. وهذه قد تكون البداية لإعادة رسم الخارطة السياسية الجديدة للشرق الأوسط على أسس من توازن القوى الجديد.