عصر يوم الجمعة أول يوم في عيد الفطر كان عدد سكان مصر 300 مليون عربي، وفي مباراة أم الدنيا مع الأوروجواي كان أحد عشر محمد صلاح في أرض الملعب.. وفي أرض الملعب أيضاً أحد عشر كوكباً كانوا وُلِدوا من صلب النيل، وفي أجسادهم وأرواحهم صلابة الهرم وجريان النهر.. لعبوا برجولة ترقى إلى درجة البطولة.
كل الوطن العربي كان ينبض في قلب مصر ومن قلب مصر، وكانت المباراة أكثر من كرة وأكثر من مونديال، وأكثر من رسالة أحد سطورها الذهبية أن العربي كائن عالمي بهوية عربية عالمية أيضاً، وأن العربي يفكّر، ويبدع، ويلعب، ويتفوّق، وفي مقدوره أن يكتب اسمه في أعلى الجوزاء وفي رأس الثريّا، وأنه رقم صعب، وجدير بالاحترام حتى لو لم يحالفه الحظ.
كرة المصريين أمام الأوروجواي، وأنت تدري ما الأوروجواي تاريخياً في هذه اللعبة الجماهيرية العالمية، والتي فازت في كأس العالم مرّتين، أقول بعد هذه الجملة الاعتراضية الطويلة، إن الكرة المصرية لها أيضاً تاريخ وخبرة وألف حساب، وأكثر من ذلك النديّة والوثوق والشخصية الكاريزمية القوية والأداء الأنيق والرشيق الذي يقول للعالم كلّه: نحن هُنا، ونحن عرب، وللعربي هويته وحضوره، وقدرته الفذّة على صناعة الجمال، وصناعة الإبداع.
لم يفز فريق كرة القدم المصري في المباراة، لكن فازت روح مصر، وفازت الروح العربية والاسم العربي الذي كان اسماً واحداً موحّداً في لحظة تاريخية استثنائية، ليس المهم أن تكون لحظة خسارة أو فوز بقدر ما هي لحظة وجودية نفسية وطنية وحدوية، حققت شيئاً عزيزاً عظيماً اسمه «الأمل» الذي تعيده الرياضة إلى الإنسان العربي هو في حدّ ذاته ثقافة، وتربية، ووعي.
هكذا نقرأ هذه المباراة قراءة ثقافية، واجتماعية، ونفسية، وسياسية أيضاً، فهي مباراة كشف ومباراة وجود، ومباراة هوية تحققت مفرداتها الجمعية من خلال امتلاء العربي بمصر التاريخ والقيمة والوجود، وكذلك امتلاء مصر بعروبتها ورمزيتها وقدرتها التاريخية على إنجاب المعنى والفكر والحياة، كما قدرتها على ولادة الناس البسطاء، وتحويلهم بالذاكرة المصرية إلى عباقرة.
كرة القدم بوصفها لعبة، هي أيضاً نوع من التحدّي وإثبات الجدارة، وهي مرآة رأينا فيها أنفسنا نحن العرب، فنحن لسنا خارج خريطة العالم، ونحن ندّيون، ونحن شركاء في بناء العالم وبنيته وتكوينه التاريخي والمعرفي والثقافي.
كرة القدم المصرية في فوزها وفي معاندة الحظ لها هي تعبير جسدي فكري عن عبقرية بلد وعبقرية شعب جاء من ظهره نجيب محفوظ، وجمال حمدان، وعبّاس محمود العقّاد، وأم كلثوم، وتوفيق الحكيم، وأحمد زويّل، وسعد زغلول، وجمال عبدالناصر، وأحمد شوقي، وغيرهم، وغيرهم ممّن أعطوا الثقافة كرتاً أخضر نحو العالم، وأعطوا الفكر والفن والأدب عناوين عظيمة في المرونة والتعايش والتسامح والحوار.
تفتح مباراة الجمعة الماضية أكثر من ملف، وأكثر من تأمّل، وأكثر من قراءة، تصب جميعاً في شخصية حوالي 300 مليون عربي، كانوا ذلك النهار في سيّدتنا المحروسة.
باختصار وفي أربع كلمات:.. خسارة أكبر من فوز.
96 2 دقائق