تدريجياً سقطت المحظورات.
ما عاد «عيباً» الكلام العنصري في المجتمعات التي تصف نفسها بـ«المتحضرة»… منذ هزيمة النازية الهتلرية وفاشية موسوليني! ما عاد هناك أي خجل من تصنيفها الناس على أساس اللون والدين والعرق والجنس ومستوى الثراء.
صحيح أنه بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عاشت الولايات المتحدة ظاهرة «المكارثية» رداً على الشيوعية السوفياتية المنتصرة في شرق أوروبا و«المارد الأصفر» الجديد الذي أطلقه في الصين ماو تسي تونغ وتتابعت موجاته في الهند الصينية مع معركة ديان بيين فو والحرب الكورية. لكنه صحيح أيضاً أنه سرعان ما ظهرت حركة الحقوق المدنية في أميركا، وخرجت في أوروبا قيادات عاقلة سعت لإعطاء القارة دوراً وازناً سياسياً يتجاوز المصالحة الاقتصادية البحتة… فلا تبقى «مسرح مواجهة» بين موسكو وواشنطن.
أيضاً، لا جدال في أن «الأحلاف» الغربية – وأبرزها حلف شمال الأطلسي «ناتو» – تجاوزت في أوروبا كيانية «الدولة – الأمة»، وأسهم في ذلك تطوّر التعاون الاقتصادي الذي حوّل «الرابطة الأوروبية للفحم والفولاذ»، إلى «السوق الأوروبية المشتركة» وصولاً إلى «الاتحاد الأوروبي»… غير أن الحدود السياسية في القارة ما كانت أصلاً قد رسمت بدقة حدود الإثنيات، بل تستوعب أقليات، وتتوزّع أقليات أخرى على أكثر من كيان مستقل.
هذا في أوروبا الغربية، أما في أوروبا الشرقية، فأطلق الاتحاد السوفياتي محاولة رائدة للاعتراف بالخصائص العرقية واللغوية والدينية للأقليات، فكانت البلاد تنقسم أفقياً على عدة مستويات من الاستقلالية الداخلية بدءاً بـ«الجمهوريات السوفياتية» الـ15. وتحتها «الجمهوريات الذاتية الحكم» وتحتها «الدوائر والإقليم القومية أو الإثنية». غير أن المبدئية المثالية هذه لم تترجم دائماً بصورة طبيعية وصحيحة على الأرض. ثم إن العلاقات التاريخية بين الشعوب المنتشرة على أراضي البلاد الشاسعة في ظل حكم القياصرة ما كانت سلمية دائماً، وكان للروس الغلبة والنفوذ في معظم الجمهوريات ضمن الدولة السوفياتية «الأممية» العابرة للأديان والإثنيات. ومن ثم، لعبت «الهندسة الديمغرافية» دوراً في الهشاشة الداخلية، ولاحقاً في التوتر الإثني داخل بعض «الجمهوريات».
أما في أميركا، التي هي أساساً «بلد مهاجرين» ذات تركيبة اتحادية (فيدرالية) وليست «دولة – أمة» وفق التعريف الكلاسيكي، فكان من أبرز إفرازات هذا الواقع سهولة الهجرات الداخلية بين الولايات، بعيداً عن معوّقات اللغة والحساسيات الإثنية – الوطنية. غير أن أميركا دونالد ترمب واليمين المحافظ ما عادت مطمئنة للمستقبل إزاء التزايد السريع في نسبة الهسبانيكيين (المتحدرين من دول أميركا اللاتينية) الذين قارب تعدادهم عام 2016 الـ58 مليون نسمة. وهؤلاء هم اليوم ثاني أسرع العرقيات نمواً بعد الآسيويين، مقابل النمو البطيء للغالبية البيضاء المتحدرة من دول أوروبا. وإبان حملة ترمب الانتخابية وغيره من مرشحي اليمين المتشدد انتشر كلام صريح مؤداه أن «أميركا أمام آخر فرصة لإنقاذ نفسها من مصير مجهول».
الحقيقة أن أميركا شهدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ثلاثة تغيرات مهمة جداً على الوضعين الاقتصادي والديمغرافي:
– التغير الأول هو التغير التكنولوجي والتحوّل الهائل من الصناعات التقليدية إلى الصناعات التقنية المتطوّرة التي لا تحتاج للعمالة الزائدة وغير المتخصصة في عصر الكومبيوتر والروبوت.
– الثاني هو التغير السكاني، ذلك أن بؤرة الثقل السكاني واصلت زحفها من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي، وبعدما كانت الولايات ذات الغالبية «الأنكلوسكسونية/ الجرمانية» مثل نيويورك وبنسلفانيا وماساتشوستس وأوهايو وإيلينوي تشكل الثقل الأكبر، صارت «الولايات اللاتينية» وعلى رأسها كاليفورنيا وتكساس وفلوريدا هي الولايات الأكثر سكاناً والأسرع نمواً والأغنى موارد.
– الثالث هو رياح العولمة التي هبّت على أميركا فأسقطت «تحصيناتها» الاقتصادية، ولنأخذ مثلاً بسيطاً صناعة السيارات. إذ كان في أميركا حتى مطلع عقد الخمسينات نحو 10 شركات صانعة تنتج ما لا يقل عن 30 ماركة. وكان الإنتاج الأميركي يحتكر عملياً السوق الأميركية. أما اليوم فلا توجد سوى 3 شركات صانعة تنتج 10 ماركات. وبعدما كانت السيارات الألمانية «رأس حربة» الاختراق عبر فولكسفاغن خلال الخمسينات من القرن الماضي، اقتحم اليابانيون السوق بقوة خلال الستينات، وتلاهم الكوريون الجنوبيون في أواخر السبعينات، وقد نرى قريباً السيارات الصينية التي أخذت تجتاح أسواق العالم.
ومن ثم، فإن الهجرة – بما فيها اللجوء – وسط رياح العولمة العاتية التي تهبّ على العالم، جاءت لتثير الهواجس وتهزّ العديد مما كان حتى الأمس القريب أقرب إلى الثوابت. وعلى رأس هذه الثوابت مفهوم «الدولة – الأمة» والفصل بين اليمين واليسار.
مفهوم «الدولة – الأمة»، يهتز اليوم مع تزايد الحركات الانفصالية قوة في العديد من الدول الأوروبية كإسبانيا وبريطانيا. بينما حقق الانعزاليون و«الشعبويون» في إيطاليا قفزة نوعية في «تلطيف» الخطاب الانفصالي سعياً وراء توسيع قاعدة الخطاب القومي العنصري، في حين نرى في دول كألمانيا وهولندا والدنمارك والمجر أن يمينها العنصري لا يوارب ولا يتستر وراء مصطلحات مخففة.
أما بالنسبة لليمين واليسار، فإن نسبة عالية من العناصر التي التحقت في فرنسا بصفوف «الجبهة الوطنية» خلال العقود الأخيرة جاءت من الطبقة العاملة وقوى اليسار المتشدّد. كذلك صوّت قطاع واسع من يساريي حزب العمال البريطاني لصالح الانسحاب من «الاتحاد الأوروبي» خوفاً من العمالة الوافدة من أوروبا الشرقية، ثم إن ماتيو سالفيني نائب رئيس وزراء إيطاليا و«رجلها القوي» انتقل إلى قيادة اليمين المتطرف من صفوف الشيوعيين!
ولا يختلف الوضع كثيراً في أميركا، حيث وقف العمال اليدويون المؤيدون تقليدياً للحزب الديمقراطي مع رونالد ريغان عام 1980 فاستحقوا لقب «ديمقراطيو ريغان»، وفي الانتخابات فاز دونالد ترمب بأصوات قواعد عمالية في ولايات بنسلفانيا وميشيغن وويسكونسن… تأييداً لموقفه ضد العمالة الوافدة و«الحمائية». ولنتذكر أن شعارات الحمائية التي رفعها ترمب في حملته الانتخابية كانت أقرب إلى خطاب اليسار الأوروبي التقليدي منه لشعارات اليمين المؤمن باقتصاد السوق الحرة.
نحن، إذاً، أمام منعطف تاريخي، فكري ووجودي في مسألة «نحن… والآخرون». وللأسف، نعيش تداعياته الآن بشكل مقلق حتى في عالمنا العربي.
80 3 دقائق